نظرية اللعبة ــ كما صاغها الرياضي جون فون نيومان والاقتصادي أوسكار مورغنسترن ــ هي نموذج لفهم التفاعل الاستراتيجي: مواقف تكون فيها النتيجة التي تحصل عليها مرتبطة بالقرارات التي يتخذها غيرك، وفي نفس الوقت قراراتهم تتأثر بتوقعاتهم لما قد تفعله أنت.
لهذا امتدت تطبيقاتها من طاولة اللعب إلى قاعات الاجتماعات، ومن علاقات الأفراد إلى سلوك الشركات والدول.
وفي المقالات الثلاث القادمة، سنتناول أمثلة حيّة توضح كيف تنعكس هذه النظرية الجوهرية في علم الاستراتيجية على تعاملاتنا اليومية.
بدأت النظرية حينما كان نيومان يحاول أن يصمم نموذجًا رياضيًّا دقيقًا لوصف قرارات اللاعبين في البوكر.
لكن المفاجئ أن المبادئ ذاتها تنطبق – وبدهشة مماثلة – على لعبة البلوت أيضًا.
من طاولة البوكر (أو تربيعة البلوت) إلى نظرية رياضية
في إحدى الليالي، وأنا أراقب جولة “بلوت” تدور بين الأصدقاء، لفت انتباهي شيء غير الأوراق على الطاولة، وهي أن كل حركة تُبنى على توقع حركة أخرى. لا أحد يلعب ورقته فقط لأنها الأقوى، بل لأنها تخدم ما “قد” يفعله الآخرون.
وكأن هناك لعبة تحت اللعبة.
الفكرة التي انطلقت منها نظرية اللعبة كانت شديدة البساطة والعبقرية في آن: كيف تتخذ قرارك وأنت تعلم أن الطرف الآخر يتخذ قراره على أساس توقعه لقرارك؟
الرياضي جون فون نيومان ـ الذي كان لاعب بوكر بارع ـ لاحظ أن الخداع والتمويه ليسا عيبًا عرضيًا في اللعبة، بل استراتيجية عقلانية.
ومن هنا جاءت فكرته عن
الخلط الاحتمالي (Mixed Strategies): لا تكرر نفس الحركة في كل مرة، بل غيّر أسلوبك بحيث تُربك خصمك وتجعله عاجزًا عن التنبؤ بخطوتك التالية.
1928 – مبرهنة المينيمـاكس
في عام 1928، وضع فون نيومان الأساس الرياضي لنظرية الألعاب من خلال ورقته الشهيرة التي قدّم فيها مبرهنة المينيمـاكس (MiniMax Theorem)، وهي مبرهنة تُعنى بالألعاب صفرية المحصلة — أي الألعاب التي يكون فيها مكسب أحد اللاعبين مساويًا تمامًا لخسارة الآخر.
الفكرة ببساطة: في أي لعبة صفرية المحصلة، تثبت مبرهنة المينيمـاكس أن هناك دائمًا نقطة توازن، يستطيع فيها كل لاعب اختيار استراتيجية (قد تكون مختلطة، أي توزيع احتمالات بين عدة خيارات) تضمن له أفضل نتيجة ممكنة في أسوأ الظروف.
بمعنى آخر: حتى لو كان خصمك ذكيًا ويحاول اتخاذ قرارات تضرك بأقصى ما يستطيع، فإن هذه الاستراتيجية تضمن لك حدًا أدنى من النتيجة لا يمكن أن تنخفض عنه، مهما فعل الخصم.
الجميل في مبرهنة المينيمـاكس أنها أثبتت لأول مرة أن اللعب الذكي لا يعني تكرار نفس الخطوة، بل التوزيع المحسوب بين أكثر من خيار.
مثال: لعبة حجرة – ورقة – مقص
تخيّل أنك تلعب “حجر” في كل مرة. لو اكتشف خصمك ذلك، ببساطة سيلعب “ورقة” في كل مرة وسيكسب دائمًا. مما يعني أن اختيار حركة ثابتة يعرّضك للهزيمة الكاملة.
التوزيع الذكي (الإستراتيجية المختلطة)
الطريقة الأفضل هي أن توزع حركاتك باحتمالات متساوية:
- ⅓ حجر
- ⅓ ورقة
- ⅓ مقص
بهذه الطريقة، حتى لو حاول خصمك التنبؤ بحركتك أو كرّر حركة معينة، فلن يتمكن من الفوز عليك باستمرار.
نعم، قد يكسب أحيانًا، وتكسب أنت أحيانًا، وقد تتعادلان. لكن في المتوسط، النتيجة ستكون صفرية – لن يضمن أحد الكسب دائمًا.
وهذا هو جوهر مبرهنة المينيمـاكس: دائمًا يوجد استراتيجية تضمن لك أفضل/أسوأ نتيجة. في حالة حجرة–ورقة–مقص: توزيعك العادل (⅓ لكل حركة) يضمن أنك لن تكون الطرف الخاسر دائمًا، حتى لو كان خصمك يعرف تمامًا أنك توزع.
باختصار: سرّ الفوز أحيانًا ليس في الخطوة نفسها، بل في التوزيع الذكي بين الخطوات. وهذا هو بالضبط لبّ المبرهنة.
مثال آخر: المفاوضات التجارية
تخيّل أنك تدير شركة وتجلس على طاولة التفاوض مع مورد:
- المورد يسعى لبيعك المنتج بسعر أعلى.
- وأنت ترغب بالحصول على أقل سعر ممكن.
هذه لعبة صفرية: كل ريال تربحه أنت، يخسره هو، والعكس صحيح.
في هذه الحالة، لو دخلت التفاوض بخطّة واحدة واضحة وصريحة (مثل: “لن أشتري إلا بهذا السعر”)، فإن المورد سيفهم استراتيجيتك مبكرًا، وقد يستخدمها ضدك.
لكن… ماذا لو وزّعت استراتيجيتك بذكاء؟
- تارةً تلمّح بأن لديك موردًا بديلًا.
- وتارةً تركز على حجم الكميات المطلوبة.
- وأحيانًا تطرح موضوع الجودة مقابل السعر.
بهذا التوزيع، سيصعب على الطرف الآخر التنبؤ بخطواتك، وتضمن لنفسك على الأقل “أسوأ-أفضل” صفقة ممكنة، بدل أن تنضغط وتخسر كليًّا.
جمالية مبهنة المينيماكس
وهنا يظهر جوهر مبرهنة المينيمـاكس: في مواقف المواجهة.
لأن الاستراتيجية الذكية ليست في تكرار نفس الخطوة، بل في توزيع الخيارات بذكاء.
هذا التوزيع يجعل الخسارة الدائمة مستحيلة — حتى إن لم يكن الفوز مضمونًا دائمًا.
وهذا ليس مجرد كلام رياضي…
بل مبدأ يمكن أن يغيّر طريقة اتخاذنا للقرارات يوميًا.
📩 في البريد القادم:
ننقلك من اللعبة المتزامنة إلى اللعبة المتتابعة—حيث لا تُتخذ القرارات في وقت واحد، بل خطوة بخطوة، وكل خطوة تصنع مسارًا جديدًا.
سنتعلّم كيف نستخدم شجرة القرارات لتخطيط أذكى، ولماذا تبدأ الاستراتيجية القوية من “تخيّل النهاية، ثم الاستدلال للخلف”.
ترقّب.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى