كنتُ أتأمل مؤخرًا كيف مرّت قرابة السنة منذ إكمالي لبرنامج الـMBA، وكيف أثْرى هذا البرنامج معارفي في الإدارة والأعمال. ولاحظت كيف أن أكثر ما يدهشني هو أن كثيرًا من هذه المبادئ يمكن تطبيقها حتى على تفاصيل الحياة اليومية.
ولكن الصدمة الحقيقية جاءت عندما قرأت عن نتائج تجارب توضّح أن أداء الأطفال في عمر الروضة كان أفضل من خريجي الـMBA، بل وأفضل حتى من مدراء الشركات!
اختبار المارشميلو
ابتكره المصمّم بيتر سكيلمان، وفكرته بسيطة: أن تبني هيكلًا باستخدام أعواد السباغيتي، على أن تكون حبّة المارشميلو في الأعلى في النهاية.
الهدف من التحدي كان دراسة كيفية اتخاذ الناس للقرارات تحت ظروف المنافسة والضغط.
يسمح للمشاركين بابتكار أي حل إبداعي: قصّ الأعواد، تغيير زواياها… لا قيود.
تم دراسة هذا التحدي ومقارنة نتائج مجموعات مختلفة من المهنيين، مدراء الشركات، طلاب وخريجي برنامج ادارة الاعمال MBA، وأيضًا… اطفال الروضة!
النتيجة المذهلة
كانت أن الأطفال تفوّقوا على طلاب الـMBA وحتّى على مدراء الشركات!
السبب؟ أن الأطفال يسارعون إلى البدء بالتجريب، يتعلمون بالخطأ والصواب.
أما البالغون، خصوصًا طلاب الـMBA والمدراء، فيغرقون في التخطيط والتحليل المطوّل ورسم الحل قبل البدء بالتجربة والتعلم منها.
لذا فإن أحد الأخطاء الشائعة لدى الكبار هو افتراض أن المارشميلو خفيفة بما يكفي لتستقر على الهيكل دون أن تُسقطه! بينما الاطفال يتعلمون هذه الحقيقة سريعا مع التجارب الاولى.
من التخطيط إلى الواقع
هذه التجربة توضّح كيف ان كثيرًا ما تمرّ علينا مواقف نقضي فيها وقتًا طويلًا في التخطيط، خطوة بخطوة وتفصيلة بعد أخرى، ثم نصطدم بالواقع ليتضح أن كثيرًا من تلك التفاصيل التي رسمناها لم تكن ذات صلة.
لننتهي بإهدار الكثير من الجهد والوقت والموارد في عملية التخطيط المفرط هذه.
يمكن فهم الفكرة فلسفيًا عبر فلسفة “جون ديوي”، الذي يُعتبر أحد مؤسسي البراغماتية.
تقول هذه الفلسفة إن الأهم هو المعرفة العملية القابلة للتطبيق. المعرفة حسب “ديوي” لا تتكوّن دفعة واحدة بل تنمو تدريجيًا من خلال التجربة الفعلية.
والتخطيط المفرط قد يقودنا إلى مغالطة “التفكير بالتمنّي” (wishful thinking)، أي أن نتوقع أن يسير الواقع كما نريده نحن. فعند الغرق في التخطيط بعيدًا عن التجربة، نحن نفقد عنصرًا جوهريًا للمعرفة: البيانات الحسية المباشرة.
المرونة العصبية
الدماغ، كما يوضح علم الأعصاب، يتكيّف بشكل مذهل مع الواقع عبر خاصية تسمى المرونة العصبية (neuroplasticity). هذه المرونة عالية جدًا عند الأطفال ثم تبدأ بالانخفاض تدريجيًا مع الاقتراب من سن الثلاثين.
ومع ذلك، من الجدير بالاهتمام بأن بعض الأبحاث تشير إلى أن هذه العملية يمكن تعزيزها مجددًا حتى لدى البالغين.
مبدأ أضواء السيارة
في حياتنا اليومية، كثيرًا ما نغرق في التخطيط ومحاولة توقّع كل تفصيلة في المستقبل، لنصطدم لاحقًا بعقبة صغيرة تهدم كل ما خططنا له. وفي المقابل، القفز الأعمى دون هدف أو وجهة ليس حلًا أيضًا.
السر يكمن في التوازن.
الأطفال في تحدي المارشميلو كانوا يبنون، يسقط الهيكل، ثم يعيدون تعديله مرة بعد أخرى، حتى يصلوا في النهاية إلى الشكل الأكثر توازنًا.
وهذا ما يوضحه مبدأ بسيط لكنه بالغ القوة: مبدأ الأضواء الأمامية (Headlight Principle).
انتشر هذا المبدأ في مصادر عديدة، من أبرزها كتاب The Pragmatic Programmer لـ ديفيد توماس وأندرو هانت، ينصحان فيه المبرمجين بأن تطوير البرمجيات يجب أن يكون خطوة بخطوة، مع التعلّم المستمر بعد كل مرحلة، لا عبر محاولة رسم الخطة الكاملة منذ البداية.
جوهر المبدأ يشبّه حياتك بقيادة سيارة في طريق مظلم: أنت لا ترى الطريق بأكمله، بل ما تكشفه لك الأضواء الأمامية فقط. كل منعطف تتعامل معه عندما تصل إليه، ولا تخطط كيف ستسير في الطريق بالتفصيل عندما تكون لا تزال في بدايته.
أضيف على هذا المبدأ أيضا البعد الاستراتيجي: قبل أن تبدأ الطريق، عليك أولًا أن تحدد وجهتك، وأن تختار طريقك بوعي من بين خيارات الطرق الأخرى. وهنا يظهر دور التفكير الاستراتيجي.
قبل أن تدير محرك السيارة، تحتاج إلى أن تضع توجهك الاستراتيجي: أين تريد أن تصل؟ ما هي القواعد العامة التي ستوجه قراراتك لاحقًا؟
بعدها، وعندما تنطلق في الطريق، يأتي دور التنفيذ التكتيكي: كيف تتعامل مع كل منعطف، كيف تتخذ القرارات الصغيرة بسرعة ومرونة، وكيف تتعلّم من التجربة وتتأقلم سريعا. لكن دائمًا ضمن الإطار الاستراتيجي الذي اخترته مسبقًا.
هذا المبدأ بالرغم من بساطته إلا أنه قوي جدا.
وبسبب أن عملي الأساسي في منشأة كبيرة، أستطيع ان أرى الألم الذي ينتج عن الاصطدام بالواقع بعد التخطيط المفصّل والاجراءات الطويلة اللتي تتم عادة في المؤسات الكبيرة.
كيف طبّقنا المبدأ في Office Station؟
ولكنّي لمست فائدة هذا المبدأ في أجواء Office Station الأكثر مرونة.
حيث قمنا بعمل بسيط ولكن فعّال، غيّرنا طريقة اجتماعاتنا. كثّفنا لقاءات المتابعة الأسبوعية (التكتيكية)، وفصلناها عن اجتماعات التخطيط الطويلة (الاستراتيجية).
أصبحنا نقضي ساعة واحدة فقط لمراجعة المستجدات التي تظهر فجأة، ثم نقرر كيف نأخذ “المنعطف” التالي. استطيع ان اقول بأن قراراتنا اصبحت فعّالة أكثر وفي نفس الوقت سريعة ورشيقة وأقرب إلى …. المارشميللو.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى
One Response
افادتنا كثير المقاله ، استراتيجيه ثم خطط قصيره حسب مقتضيات ظروف العمل وتحديات تلك المرحله خصوصا ا بدل استهلاك الوقت في التخطيط لكل التفاصيل والغرق في متاهة الصعوبات والمشاكل قبل البدء فعليا في العمل..