حين تختار الفكرة وقتها

شارك

في ذلك الصباح توقّفت لحظةً لأُعيد الحساب.

كنتُ أعاني تأخيرًا في أحد المشاريع التي أعمل عليها. كلّ يوم بعد الظهر، حين أهمّ بإكمال العمل، أؤجّله إلى اليوم التالي… وهكذا طوال أسبوع كامل.

سألتُ نفسي: لِمَ لم أستطع إنهاءه في وقته؟

 

لم يكن السبب الإرهاق أو التعب؛ فأنا أُنجز أعمالًا أخرى رغم أنها تتطلّب جهدًا أكبر. وحين فكّرتُ في الأمر وجدتُ أن المرحلة التي وصلتُ إليها -وتوقّفت عندها- كانت تحتاج قدرًا من الطاقة الإبداعية.

 

عندها بدأتُ أتساءل: ما الفرق بين الأعمال التي تتطلّب طاقة إبداعيّة، وتلك الروتينيّة؟

واكتشفت أن التفكير الإبداعي يقوم على ثلاثة عناصر:

  1. أصالة الفكرة: أن لا يسبقك إليها أحد.
  2. اللا-توقّع: أن تحمل حلًّا غير مألوف.
  3. القيمة العملية: أن تُثمر فائدة ملموسة.

 

كثيرًا ما نغفل العنصر الثالث ونخلط بين الإبداع والابتكار؛ فقد تكون الفكرة أصيلة وجديدة، لكن لا تُعدّ إبداعية ما لم تتحقّق على أرض الواقع وتُحدث قيمة.

كنتُ أرى أفكارًا إبداعية كثيرة لذلك المشروع تتطاير في مخيّلتي، لكن -حتى ذلك الصباح- لم يتحوّل شيءٌ منها إلى واقع.

لماذا؟ دخلتُ في حوارٍ مع عقلي لأفهم لِمَ لا يعمل كما ينبغي.

 

خرافة “المخ الأيمن”

الفكرة الشائعة تقول إن الإبداع يقطن الفصّ الأيمن، والتحليل في الأيسر. غير أن دراساتٍ عديدة تنقض هذا التصوّر؛ إذ تُظهر أن الإبداع لا يسكن منطقةً واحدة، بل ينتج عن تعاون ثلاث شبكات عصبيّة رئيسية والتواصل الفعّال بين هذه الشبكات هو ما يولّد الإبداع.
(1)

 

عند التأمّل في هذه الشبكات وجدتُ أن الحُصين يشارك في معالجة الذكريات الجديدة، وأن الفصّ الجبهي جزءٌ محوريّ فيها، وهو معنيٌّ بإطلاق الأحكام واتخاذ القرارات.

 

هنا سألت نفسي: هل ياترى تُصبح هذه المناطق «مشغولة» بعد التعرّض لتفاصيل اليوم، فتنصرف إلى معالجة معلومات أخرى؟ فمن المنطقيٌّ أن يكون الفصّ الجبهي مثقلًا بقرارات ما بعد الظهر، والحُصين منهمكًا باستيعاب مدخلات وذكريات جديدة.

 

متى يعمل الذهن للإبداع؟

تُظهر الأبحاث نتائج متنوّعة: بعضها يرجّح أن العمل الإبداعي أنسب في الصباح الباكر، وبعضها يرى أن الفروق تتبع النمط الزمني للفرد (صباحيٌّ أم مسائيّ)، مع إشارة متكرّرة إلى أن الكفاءة الإبداعية ترتفع خارج ساعات الذروة. (2) (3)

 

لاحظتُ الفرق بوضوح حين قرّرتُ أن أعمل على المشروع باكرًا، تحديدًا على المرحلة التي كانت تتطلّب طاقة إبداعيّة؛ أنهيتُها خلال يومين فقط بعد تعديل التوقيت.

تبسّمتُ وأنا أفكّر كيف أن تفاصيل صغيرة قد تصنع فارقًا كبيرًا، وكيف أن الظروف والأدوات والبيئة المحيطة بنا ساعة العمل قد تكون الفرق كلّه حين يتعلّق الأمر بالإنتاجيّة.

صورة للدماغ
صورة لتحليل بيانات الأشعة في الدراسة توضّح ارتباط الشبكات العصبيّة في المخ في وقت العمل الأبداعي (4)

 

الخلاصة

وأخيرًا، أدركت أن الإبداع لا يتعلّق فقط بقدرتنا على التفكير أو بصفاء الذهن، بل بتوقيت تفتّحه أيضًا.

فالعقل -مثل الزهرة- لا يزهر في كل وقت، بل يحتاج لحظة ضوءٍ مناسبة ليمنح أجمل ما عنده.

أحيانًا، السرّ ليس في تغيير الفكرة أو الأسلوب، بل في أن نختار الساعة التي يُزهر فيها وعينا.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

تحرير وإعداد: إنعام مصطفى

التعليقات (0)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

أحيانًا تحس إنك تعبان..

لكن ما تقدر توقف لأنك تحاول تصنع شيء، بس البيئة ما تساعدك!