هل يمكن أن…

شارك

في إحدى اجتماعاتنا الصباحية الروتينية، وجد فريقي نفسه في مواجهة حاسمة مع فريق آخر بشأن تفصيل بسيط يتعلق بأحد الإجراءات التي تتعلق بالحالة التي كنّا نناقشها.

كان مفتاح البتّ في هذا التفصيل بيد الفريق الآخر، لكن فريقنا كان يرى بوضوح أن إيقاف الإجراء المتّخذ سيكون مصلحة عامة لا تقبل الجدل.

 

تقدّم زميلي أثناء النقاش، محاولاً انتزاع موافقة سريعة: “هل من الممكن أن نوقف هذا الإجراء؟”.

جاءه الردّ سريعا وبشكل تلقائي, “لا”،
مباشراً وحاسماً. وعلى إثر هذه الكلمة البسيطة، انغمسنا في جدال وأخذ وردّ استمر بلا طائل لنصف ساعة كاملة حول هذه النقطة البسيطة.

 

كانت الكلمة الخاطئة قد كلفتنا ثلاثين دقيقة من الجهد الذهني والوقت الثمين على تفصيل لم يكن يستحق أكثر من دقيقة واحدة.
والسؤال الأهم هنا: هل كان بمقدور زميلي أن يصل إلى مراده بفاعلية وسلاسة أكبر؟

 

صراع النظم: الدماغ بين التحليل والدفاع

يكمن جوهر المشكلة في كيفية معالجة الدماغ البشري للطلبات الموجّهة إلى صاحبه من الخارج. عبارة “هل من الممكن أن نوقف…” لم تكن مجرد سؤال عن القدرة، بل كانت بمثابة “تأطير لغوي Linguistic Framing”، وجّهت استجابة المتلقي نحو المسار العصبي الخاطئ.

 

كما يكشف لنا علم الأعصاب الإدراكي، عندما يشعر الدماغ بأنه على وشك أن يفقد شيئاً ما، يتفعّل على الفور نظام اللوزة الدماغية الثنائية Amygdala. هذا الجزء، الذي يمثّل قلب نظامنا العاطفي، يُدار بـ “قاعدة الاستدلال العاطفي” (Affect Heuristic)، ويدفعنا نحو المحافظة التلقائية على الوضع الراهن خوفاً من أي خسارة محتملة، سواء كانت خسارة لإجراء متخذ، أو سلطة، أو حتى حرية اتخاذ القرار.

 

الردّ من قبل الفريق الآخر “لا” كان رد فعل عاطفي افتراضي، وليس تحليلاً منطقياً.

 

في ذلك الموقف، الصياغة التي فتحت الباب للسؤال عن الإمكانية “هل يمكن؟” سمحت للعقل بالتركيز على المخاطر والخسارة، مما أدّى إلى مسار عصبي سريع وعاطفي أفضى إلى الرفض الفوري. لقد قامت تلك الصياغة اللّغوية بدور “الصمّام” حيث حوّلت مدخلات القرار من مسار أنظمة التحكم التنفيذي البطيئة والتحليلية (مثل القشرة الجبهية) إلى نظام اللوزة الدماغية السريع والعاطفي.

 

من السؤال إلى التوجيه: هندسة الصياغة الاحترافية

تساءلت حينها: ماذا لو أن زميلي صاغ طلبه بطريقة مختلفة، ماذا لو كانت “توجيهية محايدة” بدلاً من صيغة السؤال؟ إن تقديم الطلب كتوجيه مع التركيز على المنفعة المشتركة المدعومة بالحقائق يؤدّي إلى توجيه الحوار مباشرة نحو أنظمة التحكم التنفيذي التي تهتم بـ التحليل المنطقي وتكامل المعلومات.

 

ربّما لو كانت صياغة بديلة ومقنعة مثل: “لضمان انّنا نغطّي جميع الزوايا، ووفقا إلى (سرد للحقائق) فالأفضل هو (إلغاء او تأجيل القرار) إلى حين مراجعة الآثار المتوقّعة”.

 

مثل هذه الصياغة تعمل على إخماد الاستجابة العاطفية بينما تنشّط شبكات الإدراك الاجتماعي وتعطي إشارة إلى دماغ الطرف الآخر بأن الهدف من الطلب هو توجيه واثق بدلاً من إشارة تدل على عدم يقين إضافة إلى محاولة للتغيير ربّما تمثّل خطرا على سلطة الطرف الآخر.

 

هذا التغيير البسيط ربّما كان سيختصر جهد ووقت نصف ساعة كاملة.

 

متى نوجّه ومتى نسأل؟ فلسفة التوازن

يؤكّد هذا الموقف أن تفاصيل استخدامنا للّغة يمكن أن تغيّر النتيجة بشكل جذري. لكن هذا لا يعني أن “الأسلوب التوجيهي” هو الحل السحري دائماً؛ فالأمر يتوقف على عاملين أساسيين يحدّدان الأسلوب الأمثل:

 

1- مدى الثقة والتأكد من القرار
عندما تكون الحقائق تدعم قرارك وتكون في موضع ثقة عالية (كما في موقف زميلي)، فإن الأسلوب التوجيهي المحايد والمدعوم بالبيانات يصبح أكثر فاعليّة.

هذا على النقيض من الوضع المتردّد (ثقة منخفضة): إذا كنا غير متأكدين، فإن الأسلوب التوجيهي يصبح غير ملائم. في هذه الحالة، يجب أن يكون موقفنا هو المناقشة وطرح السؤال بصدق لطلب الرأي، مما يتيح للدماغ الاجتماعي العمل بشكل تعاوني.

 

2- توازن القوى المهنية
في حالة القوى غير المتوازنة: سيكون من غير المنطقي أن يتبنى صاحب القوة الأقل موقفاً توجيهياً. بينما على الطرف الآخر، سيكون من التواضع والحكمة أن يتبنّى صاحب القوة الأعلى أسلوباً استشارياً (السؤال).

في حالة القوى المتوازنة مثل موقف فريقي في هذه الحالة: ينطبق حديثنا عن “هندسة الصياغة” بشكل خاص على المواقف التي تتوازن فيها القوى بين الأطراف، حيث تصبح “طريقة الصياغة اللّغوية” هي القوّة الفاصلة بين الإقناع والجدال.

 

أخيرًا..

إن المحترف الحصيف لا يكتفي بعرض منطقه، بل يتعمق في فهم كيفيّة استقبال الطرف الآخر لكلماته.

إنّه يدرك أن الصياغة ليست مجرّد أسلوب؛ إنها “آلية عصبية” إمّا أن تفتح مسار التعاون، أو أن تغلقه بنصف ساعة من الرفض والدفاع المستمر.

 

قد يتساءل البعض لماذا لم أختر عنواناً توجيهياً صارماً مثل: “اقرأ هذه المقالة الآن لتحترف الإقناع”.
لكن الإجابة تكمن في جوهر ما ناقشناه: التواصل الفعّال ليس عن فرض الأوامر، بل عن إدارة الإدراك. نحن لا نسعى لـ استجابة تلقائيّة منكم، بل إلى قرار واعٍ بالمتابعة، مبني من ثقتنا على قيمة ما وجدتموه هنا.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

تحرير وإعداد: إنعام مصطفى

التعليقات (0)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

أحيانًا تحس إنك تعبان..

لكن ما تقدر توقف لأنك تحاول تصنع شيء، بس البيئة ما تساعدك!