تعِس عبد الدّرهم

كنت أراقب نفسي بهدوء، لا لأحكم، بل لأفهم. لماذا أُرهق بهذا الشكل حين أؤجّل مشروعًا لا يحمل قيمة حقيقية في داخلي؟
لماذا أتوتر من تأخير مهمة، وأنا أعرف أنها لا تمثّلني أصلًا؟ ولماذا أجد صعوبة في قول “لا”، عندما لا يكون هناك أي معنى وراء “نعم”؟

تأملت المشهد قليلًا. معظم الأيام تبدأ بنفس الطريقة: قائمة مهام، إشعارات، رسائل تنتظر ردًا، ومشاريع تتزاحم على زاوية من ذهني. كلها تطلب شيئًا. شيء لا هو أنا، ولا هو ما أريد فعلاً.

ثم تذكرت الحديث القديم الذي سمعته مرارًا دون أن يتوقف عندي كما توقف اليوم:

“تعِس عبدُ الدرهم، تعِس عبدُ الدينار…”

لم يكن المعنى متعلقًا بالمال كرقم، بل بالتبعية كحالة. أن يتحوّل الإنسان إلى تابعٍ لما يظن أنه يمنحه القيمة. ليس شرطًا أن يكون درهمًا بالمعنى التقليدي.

أحيانًا يكون الدرهم هو عدد المشاهدات، أو إعجاب المدير، أو “فرصة العمر” التي لا تملك قلبك لكنها تملك خوفك.

 

العبودية هنا ليست شكلًا، بل شعورًا خفيًا يتسلل: أن تستيقظ وفيك شعور غامض بأنك متأخر عن سباق لا تعرف من حدّد بدايته.
أن تشعر بالذنب لأنك لم تكن “كافيًا” في مقياس لا تدري من وضعه أصلًا. أن تستهلك وقتك في ما لا يشحنك، فقط لأنك تخشى أن تُستبدل.

 

كل هذا… عبودية ناعمة. عبودية لا سلاسل فيها، لكن فيها استنزاف أشد من الحديد. لأنها تُلبسك ثوبًا لا يمثّلك، ثم تطلب منك أن تركض به وتُقنع الجميع أنه يليق بك.

هل المال مهم؟ نعم. هل نحتاج للعمل؟ طبعًا. لكن الخطر ليس في أن نملك الدرهم، بل في أن يملكنا.
حين يُصبح القرار محكومًا بـ”كم سندخل من هذا؟”، بدل أن يكون محكومًا بـ”هل هذا يمثّلني؟”، هناك يبدأ الانحدار. وحين نربط قيمتنا الشخصية بنتائج لحظية، نُسلّم رقبتنا للسوق بدل أن نقود أنفسنا منه.

 

أغرب ما في الأمر… أن هذه العبودية كثيرًا ما تتخفّى في ثوب النجاح. قد تبدو من الخارج شخصًا ناجحًا، مشغولًا، محبوبًا، وربما حتى ملهِمًا. لكن الداخل يهمس بشيء آخر: أنك تعمل بنظام لا يسمح لك بالتنفس، وأن كل إنجاز جديد… لا يشعرك بالامتلاء، بل بالفراغ أنك كلما وصلت لمرحلة أعلى، صارت المسافة بينك وبين ذاتك أبعد.

وهنا تكمن المفارقة: أن يتحول النجاح الظاهري إلى قيدٍ، وأن تتحول الحرية التي حلمت بها في البداية… إلى دور تؤديه من أجل أن تبقى مقبولًا.

 

قد تستغرب أن هذا الكلام يصدر من فريق Office Station — المشروع الذي يُسهّل على الناس تنظيم أعمالهم، وتحسين بيئاتهم المكتبية، ويقترح أدوات للعمل المركّز والإنجاز.

لكننا نعرف جيدًا أن ترتيب المكتب لا يجب أن يعني تضييق الحياة، وأن الإنتاجية ليست مرادفًا للاستنزاف. نحن لا نبيع طاولات لتقييد الناس في كراسيهم، ولا نروّج لكماليات تزيد الضغط بدلًا من أن تخفّفه.

نحن نبني مساحة… ليس لأننا نؤمن بثقافة “اعمل أكثر”، بل لأننا نؤمن بأن من حقك أن تعمل بكرامة، وتفكر بحرية، وتنتج ما يمثّلك… لا ما يُطلب منك دون وعي.
ولهذا السبب بالذات، “تعِس عبد الدرهم” ليست فقط حديثًا نُذكّر به متابعينا — بل مبدأ عميق نزن به كل قرار: هل هذا المنتج، هذا المحتوى، هذا المسار… يخدم الإنسان، أم يستهلكه؟

أكتب اليوم لا لأحذّر غيري، بل لأذكّر نفسي

أن المعنى لا يُقاس بعدد العقود، ولا الحرية تُمنح بمسمى وظيفي، ولا النجاح يُختصر في عائد استثماري.

وأن الحرية الحقيقية…

هي أن لا تكون عبدًا لشيء لا يمثّلك. أن تبني دخلك لا على حساب روحك، بل في خدمتها. أن تنام مرتاحًا، حتى لو لم تنهِ كل المهام، لأنك لم تنسَ نفسك في الطريق.

“تعِس عبد الدرهم” ليست فقط دعوة للتحرر، بل صفعة ذكية لمن نسي أنه يمكن أن يكون هو السيد… لا التابع.

وتقبل الله صيامكم، وكل عامٍ وأنتم إلى الله أقرب.

 

الكاتب: عبدالإله برناوي

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى