الوقت كان يتحرّك ببطء غير معتاد، حتى شعرتُ أن الاجتماع لن ينتهي.
وأمامي، استرسلت الزميلة في عرض البيانات بحماس، تفاصيل كثيرة، دراسات متعددة، أرقام لا نهاية لها.
وعلى الرغم من هذا كله، إلا أن شيئًا ما كان مفقودًا…
لأعطيكم نظرة واسعة، خُصّص هذا الاجتماع لتقييم مجموعة من المنتجات، وكان على اللجنة أن تحسم قرار الشراء قبل نهاية الجلسة.
التقييم عادة يقوم على عاملين اساسيين: التكلفة و الفعالية والعلاقة بينهما.
وفي سياقات معينة، يكون التوسّع في التفاصيل جزءًا من العدالة في التقييم.
لكن في هذا الاجتماع تحديدًا… لم تكن الظروف مثالية.
حيث أن الحضور يضم شخصيات قيادية من مجالات متنوّعة، يحمل كلٌّ منهم جدولًا مزدحمًا وذهنًا موزّعًا بين اجتماعات متلاحقة.
وهنا أدركت شيئًا مهمَّا، في مثل هذه اللحظات، لا ينتصر من يعرف أكثر، بل من يُحسن عرض الأقل بأذكى طريقة.
خرجت من الاجتماع بسؤال بقي يرافقني: ما المعلومة التي تستحق أن تُطرح فعلًا؟ وما الذي يجعل عرض المعلومة ذو معنى؟
وأعتقد أن جزءًا كبيرًا من الإجابة يكمن في الفرق بين “عرض المعلومة” و“صناعة المعنى”.
الزميلة لم تكن تفتقر للجهد، ولا للمصادر، بل كانت تمتلك كل شيء تقريبًا: البيانات، الدراسات، المصادر.
لكن رغم ذلك، لم يصل المعنى…
أدركت حينها أن المعلومة مثل المكونات، لا يكفي أن تكون متوفّرة، بل الأهم هو كيف تُحضّر، كيف تُدمَج، وكيف تقدّم.
لأن الطهو الناجح لا يعتمد فقط على المكوّنات، بل على: الترتيب. التوقيت. والذوق في التقديم.
المعنى لا يأتي من كثرة ما تقول، بل من الطريقة التي تبني بها سياقًا لما تقول.
من قدرتك على رسم خريطة ذهنية تربط الأجزاء ببعضها، وعلى تقديم خلاصة مفيدة في الوقت المناسب، لتُقنع وتؤثّر.
في رأيي، هناك أربعة مهارات تصنع عرضًا ناجحًا:
- الاختصار الذكي دون التضحية بالمعنى
الإقناع لا يعتمد على كثرة المعلومات، بل على انتقائها.ففي حالتنا هذه، بدلًا من استعراض كل أرقام التكلفة، كان من الممكن تقديم مقارنة واضحة ومبسّطة تعكس التكلفة الاجمالية مع أهم عناصرها وأكبرها.“الخلطة كانت ثقيلة شوي… وتفصيلة ناقصة تغيّر الطعم كله.” - منطقية الربط بين العناصر
أحيانًا، تكون المشكلة ليست في نقص المعلومات، بل في فصلها عن بعضها، والعرض الناجح يربط بين العناصر لتوضيح الصورة الكبيرة.مثلا، ذكرت الزميلة في العرض فعالية المنتج وتكلفته كمسارين منفصلين، دون ربط مباشر بينهما. ولم تُذكر جملة واضحة تربط بين التكلفة والفائدة المتوقعة، مثل: “رغم أن هذا المنتج يكلف أكثر بنسبة 20%، إلا أنه يقلل الحاجة للتدخل اللاحق بنسبة 35%، ما يجعله أكثر كفاءة على المدى الطويل.”
غياب هذا الربط أدى إلى إهدار وقت طويل في مناقشة فعالية المنتج بمعزل عن الأثر المالي، مما جعل القرار النهائي أكثر تعقيدًا. - ضعف مهارات الإلقاء وأساليب العرض
التحمس للفكرة والاهتمام بها لا يكفيان لتقديم عرض فعّال. فالإلقاء مهارة مستقلة بذاتها، تحتاج إلى وضوح في التعبير، وتوازن في السرعة، وتفاعل حيّ مع الحضور. - العرض البصري يخدم الجمهور، لا المقدم.الشرائح المصممة في “الباوربوينت” كانت مزدحمة بالنصوص والنقاط، وكأنها ملاحظات للمتحدث، لا وسيلة لإيصال الفكرة للجمهور.العرض البصري يجب أن يُبسّط، يُنظّم، ويجعل الفكرة مرئية وسهلة التلقّي. حيث أن دوره يكمن في توضيح الفكرة، لا إرباكها وتعقيدها.
اللحظة التي تتغير فيها طريقة تفكيرك في عرض المعلومات، هي حين تدرك أن المعلومة تكتشف، لكن المعنى يصنع.
الطبّاخ الماهر هو من يصنع القيمة
تمامًا مثل المطبخ، كل شخص لديه نفس المكونات: الملح، الزيت، البهارات، الدجاج.
لكن ما يصنع الطبق المختلف هو اليد التي تعرف متى تُضيف، ومتى تنتظر، ومتى ترفع المزيج عن النار.
بالتالي، في كل اجتماع، تذكّر:
إذا كنت ستعرض شيئًا موجودًا أصلًا في أي مصدر متاح، فلا تضيّع وقت أحد.
لكن إن استطعت أن تصنع منه زاوية جديدة، معنى أعمق، ربطًا مختلفًا
فهنا تبدأ القيمة. وهنا تبدأ بصمتك.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى