حان وقت جرعة الدوبامين: تغيير المركز وتحدّيات جديدة

في البداية، كل شيء يبدو مشوّقًا. المهمة جديدة، والمسؤولية تلامس شيئًا في الداخل. نحن نتعلم، نتحدى أنفسنا، نكتشف مناطق لم نكن نعرفها في العمل… وفي أنفسنا.

عندما توليت منصبي في المركز الجديد قبل ثلاث سنوات، شعرت وكأني أقف على قمة تلّ يفتح لي أفقًا جديدًا. كل اجتماع كان درسًا، كل موقف كان فرصة للفهم، وكل تحدٍّ كان مساحة للنمو.

كان عقلي حاضرًا، متحفزًا، يستمتع بمذاق التعلم ودهشة المرات الأولى.

 

لكن مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ شيئًا غريبًا…

نفس الملفات، نفس الاجتماعات، نفس السيناريوهات. الدهشة بدأت تتلاشى، والتكرار أصبح يزحف بهدوء. الغريب أنني رغم تراكم الخبرة، لم أعد أشعر بتلك الحماسة. وحتى كفاءتي، بدأت تنحدر بشكل خفي.

ليس لأنني أصبحت أقل معرفة، بل لأنني لم أعد “أكتشف”. وأعتقد أن الاكتشاف هو ما يجعل العقل في أوج حضوره.

 

والعلم يفسر ذلك بوضوح: عندما يتكرّر الفعل يومًا بعد يوم، ينتقل إلى مراكز “العادة” في الدماغ، ويُدار بشكل شبه آلي من العقد القاعدية. أما عندما نواجه تجربة جديدة أو نبدأ مهمة غير مألوفة، يُعاد تنشيط الفص الجبهي – المنطقة المرتبطة بالانتباه، وصنع القرار، والتحفيز، بل وحتى مشاعر اللذة. فنشاط الفص الجبهي مرتبط حتّى بإفراز هرمون اللذة “الدوبامين”.

حيث أن التجديد لا يمنحنا فقط طاقة عقلية، بل يعيد إشعال شعور الحيوية والاهتمام.

 

ومع هذا التكرار في العمل وانخفاض الشعور بالاكتشاف، بدأت أتساءل: هل أنا في المكان الصحيح؟

أدركت حينها أن التعلّق بالمكان فقط لأنه “مألوف” قد يكون فخًا…

وكلما ازداد وضوح هذا الإدراك، بدأت فكرة الرحيل تفرض نفسها، رغم ثقلها.

لم يكن القرار سهلًا، لكن شيئًا داخليًا كان ينادي بالتغيير.

في النهاية، سلّمت المركز لأحد الزملاء، شاب طموح أذكر جيدًا حين كنت أدرّبه في أول أيامه بالمؤسسة. شعرت بشيء من الارتياح… وكأن الحلقة اكتملت.

لم يكن تراجعًا فعليًا، بل إعادة تموضع في مكانٍ يسمح لعقلي أن يعمل من جديد، وبزاوية مختلفة.

 

بمجرد أن اتخذت القرار، بدأت ألاحظ كيف أن أبوابًا جديدة تفتح نفسها. وجدت نفسي في مركز آخر – أقل سلطة ربما، لكنه أضاء في داخلي تلك الشعلة القديمة.

الحماسة عادت، العقل بدأ يعمل بنمط مختلف. وللمفارقة، لم تكن تلك بداية من الصفر. بل كانت أشبه برحلة جديدة تحمل على ظهرها سنوات من المعرفة السابقة.

 

وفي اللجنة الجديدة، اكتشفت حالة من “الركود الذهني”. المشكلة نفسها تُناقش منذ أشهر، الحلول تتكرر، والمخرجات لا تتغيّر.

بدأت أستعرض ما تعلمته من موقعي السابق، وأدركت أن بعض ما اكتسبته هناك يصلح لأن يتحوّل إلى نموذج يُحتذى…

نعم، احتاج إلى بعض التعديلات ليلائم السياق الجديد، لكن المبدأ بقي صالحًا.

فالدماء الجديدة لا تعني الجهل، بل قد تكون الحامل الأذكى للذاكرة والخبرة… حين تأتي بعقلٍ مفتوح.

أحيانًا، الخبرة حين لا تتجدد، تصبح عبئًا صامتًا.

وأحيانًا، التنازل عن مركزٍ مألوف، يفتح لنا أبوابًا لنجاحات أكبر مما كنا نتخيل.

التقدّم لا يكون دائمًا صعودًا… أحيانًا نحتاج أن نغيّر الاتجاه، لا الوجهة.
لنصعد من جديد، بخفة، بحماسة، وبنظرة جديدة.

 

ومع ذلك، فإن الأثر الصادق لا يختفي.

فرغم أنني تركت المركز، ما زالت خبرتي تفيض منه، وترافق من خلفني.

زميلي الجديد لا يزال يستشيرني في كثير من المواقف، ويتواصل معي كلما واجه تحديًا. وجدت لنفسي دورًا جديدًا في المركز، دورًا يُحيي الحماسة حتى بعد أن غادرت.

أدركت حينها أن القيمة لا تتعلق بالكرسي الذي نجلس عليه، بل بالأثر الذي نتركه حتى بعد أن ننهض.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

تحرير وإعداد: إنعام مصطفى