ما بين الآلة والإنسان: ماهي نقطة قوة الإنسان؟

هل تعلم أن أول “كمبيوتر” لم يكن آلة، بل كان إنسانًا!

في أواسط القرن العشرين، وبعد أن دخل العالم مرحلة جديدة من التطور والإبداع إثر الركود الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.

جلست منهكة بعد يوم عمل طويل على الطاولة وأمامها تتدلى ورقة طويلة من الحسابات والأرقام حتى تراكمت أسفل الطاولة، كانت تعمل على مشروع لإطلاق قمر صناعي في وكالة الفضاء.

ولكنها انتبهت فجأة إلى الساعة المعلّقة فوق باب الردهة، فإذا بها قاربت على العاشرة مساءً، تملّكها الفزع وانطلقت مسرعة حتى تلحق بالقطار لتعود إلى البيت وتنام لساعات معدودة ثم تبدأ يوم عمل جديد بنفس الطريقة المملة والمضنية.

حسابات لا تنتهي، وأرقام لا نهائية.

وعلى الرغم من عبقريتها وإمكانيّاتها الكبيرة، إلا أن عملها تطلب منها إسكات ذلك الجزء المُبدع، والمواصلة بالعمل الآلي الرتيب، كأنها آلة لا عقل لها.

 

لو كنا نعيش في عام 1950، لكان يمكنك التقديم على وظيفة “كمبيوتر”!

يعود أول استخدام لمصطلح “كمبيوتر” في منتصف القرن العشرين، كانت وكالة ناسا توظف أشخاصًا على وظيفة “كمبيوترات بشرية” – وغالبًا ما كنّ نساء – للقيام بالحسابات المعقدة المتعلقة بمسارات الكواكب وحركة الصواريخ.

لاحقًا، وبمجرد أن قدمت IBM أول حاسوب إلكتروني، بدأ استبدال هؤلاء بالآلة، ببساطة لأن الآلة كانت أسرع، وأدق، لا تكلّ ولا تتعب.

تذكرت هذه القصة وأنا أراجع تقارير بعض المتدربين عندي مؤخرًا. شجعتهم على استخدام أدوات الذكاء الصناعي لتخفيف العبء عنهم، ولمساعدتهم على التركيز على التفكير العميق بدلاً من الغرق في التفاصيل.

 

لكن المفاجأة كانت أن أعمالهم – رغم كونها نظيفة ومنظمة و”مثالية تقنيًا” – إلا أنها كانت خاوية من أي روح أو معنى.

نسخ متشابهة، مبهرة من الخارج، ولكن لا شيء يبقى في الذهن بعد قراءتها.

 

في مثل هذه اللحظات، يعود سؤالٌ قديم ليطرح نفسه على كل من يشهد هذا التحوّل:

ما هو مكان الإنسان الحقيقي خصوصًا مع وجود الآلة؟

 

نهاية العالم؟

هناك مبالغة منتشرة حاليًا: “الذكاء الصناعي سيأخذ وظائفنا”.

لكن الحقيقة التي يعلمها كل من له نظرة أعمق، هي أن كل اختراع بشري – منذ اختراع العجلة وحتى الذكاء الصناعي – لم يأتِ لينتزع دور الإنسان، بل ليساعده على إعادة توزيع الجهد، وتحريره من المهام التي لا تشبهه.

 

عندما دخلت المصانع، لم نعد بحاجة للجهد الجسدي الخام، بل للابتكار والتصميم والإدارة.

وعندما دخل الإنترنت، لم نعد بحاجة لتصفح مكتبات ضخمة، بل أصبح التحدي هو في كيفية فلترة واستخدام المعرفة.

واليوم، مع الذكاء الصناعي، التحدي نفسه يعود بشكل أكثر عمقًا:

هل ستستخدم الأداة لتكثيف نقاط قوتك؟ أم ستتكل عليها فتصبح مجرد منفذ لسطور خالية من البصمة؟

 

تطور التقنية يصعد بالإنسان إلى التفكير الأعلى

عبر التاريخ، الآلة تتفوّق في التكرار، في الإتقان العددي، في الحساب. لكنها تعجز عند المعنى الحقيقي غير الزائف، وفي رؤية الصورة الأكبر.

لأن المعنى لا يُولَد في وحدات المعالجة، بل في فصوص الدماغ الأمامية – تلك المسؤولة عن الرؤية الشاملة، والربط، والحكم.

في علم الأعصاب، نعرف أن المهام المتكررة تنتقل من الفص الجبهي (المسؤول عن التفكير الواعي) إلى العقد القاعدية – مركز التلقائية.

لكن هذا النقل لا يأتي بلا ثمن. مع الوقت، يتوقف الدماغ عن إنتاج الدوبامين – ناقل المكافأة والتحفيز – في المهام المتكررة. وهذا يفسر شعورنا بالملل والتبلّد عند الاعتماد الزائد على أدوات جاهزة تفكر بدلاً عنا.

 

وظّف التقنية كمساعد شخصي

في Harvard Business Review، كتب Alexander Samuel عن أهمية أن يكون لدى كل متخصص “مساعد ذكاء صناعي”.

وأنا أتفق معه. لكن ما لم ننتبه له هو أن “المساعــد” يجب ألا يتحوّل إلى “قائــــد”.

 

الذكاء الصناعي مساعد ممتاز، لكنه قائد سيء.

هو لا يعرف من أنت، ولا ما الذي يعنيك، ولا كيف تريد أن تبدو في عملك.

 

وهنا يكمن الفارق الحقيقي.

نعم، بإمكان أي شخص اليوم أن يكتب تقريرًا أو يصمم عرضًا تقديميًا مبهرًا في دقائق.

لكن المعركة الآن لم تعد في الإنتاج، بل في التأثير.

 

في زمن تتشابه فيه المنتجات، يصبح التميّز في الفكرة، في البصمة، في قدرتك على توليد “معنى جديد من أدوات مشتركة”.

وهذا ما يُعرف في الاقتصاد الإبداعي بمفهوم Synergy – حين يجتمع الإنسان والتقنية ليقدّما شيئًا أكبر من مجموعهما.

لكن إن اعتمد الإنسان اعتمادًا كليًا، فسيصبح الناتج أقل حتى من أحدهما بمفرده.

 

“كاثرين جونسون”، كانت إحدى “الحواسيب البشرية” التي تعمل في وكالة ناسا للفضاء .

طوّرت كاثرين معادلات الفلكي “يوهانس كبلر” الشهيرة عن المدارات إلى معادلات معقدة تطبيقية كانت الأساس فيما بعد لحساب مدارات الصواريخ المنطلقة إلى الفضاء.

تخيّل لو أن كاثرين اكتفت بالحسابات “الآلية” وأغلقت مناطق المخ العليا؟ لما عرف الإنسان عن هذه التطبيقات المذهلة والإبداعية.

بعد دخول الآلة، لم تختفِ الرياضيات

بل تحرر عقل الرياضي ليرى أوسع، ليربط أعمق، ليفكّر في المسار والصورة الأكبر… لا في سرعة الحسبة.

وهكذا يجب أن نفعل اليوم.

ليس المطلوب أن نستبدل أنفسنا بالتقنية، بل أن نرتفع بها.

دائمًا أذكر نفسي: قوة التقنية تعكس قوة مستخدمها.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

تحرير وإعداد: إنعام مصطفى