كان صباحًا هادئًا في مكتبي الخاص؛ المكان لا يزال شبه خاوٍ إلا من موظفٍ واحد ينتظر تشغيل جهازه.
اعتدت في مثل هذا التوقيت أن أبدأ يومي خارج المكتب، أتنقّل لإنجاز بعض المهام قبل أن أستقر في مكتبي قبيل الظهر. لكن من عادتي أيضًا أن أكسر هذا النمط بين الحين والآخر، وفي ذلك اليوم بالتحديد اخترت أن أتوجّه مباشرة إلى المكتب.
هناك، التقيت صدفة بأحد المتدرّبين. في تلك الفترة كان باب التقديم لبرنامج الزمالة قارب على الافتتاح – وهو أعلى درجة مهنية في التخصص ومنافسة القبول فيه شديدة نظرًا لمحدودية المقاعد.
كان المتدرّب قد حجز معي موعدًا في اليوم التالي ليعرض فكرة مشروع بحثي، خطوة كم شأنها أن تزيد فرصة قبوله بشكل كبير.
في تلك اللحظة، أدركت أن الفترة الصباحية ستكون الفرصة الأنسب؛ فاليوم ما زال في بدايته، ولم يبدأ ضغط العمل بعد. وكان من المرجّح أنني سأعتذر عن لقائي معه في الغد نظرًا لانشغالي بالاجتماعات المهمّة الأخرى.
لذا طلبت منه أن يعرض فكرته. ارتبك وتلعثم، بدأ يتكلّم ثم أعاد الجمل ثم أخطأ وعدّل، إلى أن قالها أخيرًا:
“دكتور… معليش، والله مني جاهز. ما توقعت أقابلك اليوم.”
في تلك اللحظة شعرت أن هذه العبارة وحدها أزالت 90٪ من فرص قبوله.
المؤسف في القصة أنه كان يستطيع بسهولة تحويل هذه الصدفة إلى فرصة ذهبية ترفع احتمالات قبوله إلى 90٪ لو أنه فقط “هندس” اللقاء مسبقًا.
التلقائية وحدها لا تكفي
كثير من تفاعلاتنا اليومية يغلب عليها الارتجال. ندخل اجتماعاتٍ محددة مسبقًا بلا استعداد كافٍ، فنُفاجأ بردود أفعال لا نحسن التعامل معها، ثم نغادر لنراجع لاحقًا في أذهاننا -بعد فوات الأوان- ما كان ينبغي أن نقوله، وهذا النمط يضعنا في منطقة ضعف.
في علم الأعصاب يُعرف أن ردود الفعل العاطفية أسرع وأقوى؛ فهي دفاعية وفورية. أمّا التحليل العقلي-الذي يتمركز في الفص الجبهي من الدماغ- فيحتاج إلى وقت أطول لأنه يزن العواقب البعيدة ويوازن المصالح ويأخذ الكثير من العوامل والذكريات في الاعتبار.
لذا فإن الفص الجبهي -التفكير المنطقي التحليلي- لا يتناسب تمامًا مع المواقف الطارئة.
لاعب “غير استراتيجي” يخسر قبل أن يبدأ
في سلسلة نظرية اللعبة، أشرنا إلى أن أحد شروطها الأساسية هو أن يكون اللاعب استراتيجيًا؛ أي واعيًا بتكاليف وفوائد قراراته، ومدركًا لطريقة تفكير الطرف الآخر.
المشكلة هي انّ كل الميزات التنافسية من نظرية اللعبة تذهب سدى إذا لم تكن لاعبا استراتيجيا!
فإن وجدت نفسك في موقف غير متوقّع، بينما الطرف الآخر قد خطّط مسبقًا لكل خطوة، فأنت في الواقع لا تلعب اللعبة، بل تُلعَب عليك، حيث أن الطرف الآخر سبق وأن قام بهذه الهندسة.
في ذلك الموقف:
- لا وقت لتشغيل التحليل البطيء في الفص الجبهي بشكل فعّال.
- تردّ بالعاطفة أو التلقائية، فتسمح للطرف الآخر بأن يتلاعب بك ويسبقك بخطوات إذا كان مستعدًا.
عندها… تفقد ميزة الاستراتيجية.
حينها سألت نفسي، لماذا نترك التفاعلات للصدفة حين نقابل الأشخاص؟ لماذا لا نعمل بوعي على ترتيب اللقاءات وهندستها من قبل أن تبدأ؟
ومن هنا بدأتُ أستخدم محاكاة المواقف قبل حدوثها:
- من هم أطراف اللعبة؟
- ما دوافع الطرف الآخر؟
- ما أهدافي أنا من اللقاء؟
أرسم شجرة لعبة -كما شرحنا سابقًا- وأتبع القاعدة الذهبية : تخيّل النهاية أولًا، ثم عُد خطوةً خطوةً إلى الوراء.
اذا هل يجب ان نحرّم الارتجال؟
هل نلغي التلقائية تمامًا؟ لا.
الحقيقة هي انّ أسلوب المحاكاة يتناسب تمامًا مع الأنظمة ثابتة التصرّف مثل محاكاة مسار وحركة الكواكب في الأنظمة الفلكية. ظلّت الكواكب تدور في مساراتها حسب قوانين الفيزياء منذ مليارات السنين.
وحركتها في المستقبل يمكن توقعها أيضًا بهذه القوانين. تخيّل بأنه يمكن التنبّؤ بالكسوف لآلاف السنين القادمة، بل ويمكن التنبّؤ حتّى بأحداث الكسوف لآلاف السنين الماضية عن طريق أنظمة المحاكاة الفلكية والتي تتوافق بشكل مذهل مع الأدلة التي وثّقت تلك الأحداث.
البشر في الناحية الأخرى كائنات معقّدة جدّا مقارنة بالكواكب والطبيعة!
البشر يمكن أن تتغيّر دوافعهم سريعًا وبالتالي تصرّفاتهم متغيّرة بشكل كبير وحسّاسة لعوامل كثيرة ولا تسير دائمًا وفقًا لقوانين ثابتة بدقّة. ولهذا من الصعب التنبّؤ بها بشكل دقيق. قد تستطيع أن تصف تصرفاتهم بشكل عام، ولكن تظل طبيعتهم ديناميكية.
موقفي مع المتدرّب وظهوري في ذلك اليوم بشكل غير متوقّع في المكتب هو مثال واضح للفرق بين تصرّفات البشر المرنة مقارنة بأحداث الطبيعة الثابتة مثل الكسوف.
كيف اذا نستعمل المحاكاة الثابتة في احداثنا مع البشر المتغيّرين؟
بالاستعداد أولا ثم بالتأقلم!
يقول “مايكل ويلر” في كتابه عن التفاوض:
“أنت تفاوض كيف تفاوض.”
كل عرضٍ تقدّمه يكشف لك معلومتين. الأولى هي رأي الطرف الآخر من العرض.
الثانية تكشف تأثّره بأسلوبك (لغة الجسد، النبرة، السرعة) وكيف يستجيب لأسلوبك في المفاوضة.
لذلك يؤكد ويلر أن التفاوض هو حلقة مستمرّة من التعلّم، والتأقلم، والتأثير.
وبما أن أغلب تفاعلاتنا المهنية- عرض فكرة، اقتراح مشروع، نقاش تغيير- هي في جوهرها مفاوضات، فنحن نحتاج هذا المزيج: محاكاة ذكية قبل الحدث، وارتجالٌ واعٍ أثناءه.
هذا المبدأ في موسيقى الجاز
هذا المبدأ الذي يجمع بين الارتجال والهندسة في نفس الوقت يظهر بشكل واضح في موسيقى الجاز.
الجاز معروف أنه أسلوب موسيقي “ارتجالي”. ولكن هل يعني ذلك أن يجلس العازف على كرسي آلة البيانو ويبدأ بعزف أي شيء يخطر على باله؟ ليس تمامًا.
هناك قواعد يضعها الموسيقي مسبقًا في أي مقطوعة، مثل الإيقاع أو المقام الموسيقي.
لاعب الجاز يرتجل داخل هذا الإطار. فيبدأ يعزف ألحانًا من مخيّلته دون أن يكسر الإيقاع المحدّد مسبقًا أو دون أن يكسر المقام الموسيقي بطريقة عشوائية.
خلاصة المبدأ: هندسة الموقف
في النهاية، كل لقاء وكل موقف هو فرصة إما أن نتعامل معها بعشوائية، أو أن نستبقها بوعي.
بدل أن نُفاجأ بما يحدث، يمكننا أن نصمّم الطريقة التي نريد أن نحضر بها، ونرسم حدودنا بوضوح.
وهنا خطوات بسيطة لتطبيق هذا المبدأ:
- تصوّر المواقف القادمة: حدّد اللقاءات والفرص المتوقعة خلال اليوم أو الأسبوع.
- ابنِ نموذج التفاعل: عرّف الأطراف ودوافعهم، وارسم شجرة لعبة لمسارات الحوار المحتملة.
- ادخل حلقة التعلم–التأقلم–التأثير: أثناء الحدث الفعلي، ارتجل بوعي حسب المستجدات.
النجاح في التفاعل ليس حظًا؛ إنما تصميم وهندسة.
وهندسة التفاعل لا تقتل العفوية، بل تمنحك حريةً أكبر لتتصرف بذكاء ولكن ضمن حدود إطار مهندس مسبقًا عندما تنحرف الأمور عن خطتك.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى