في ليلة هادئة جلستُ في الخارج أتأمّل النجوم. لمحتُ قوس القمر النحيل بالكاد يظهر، بينما بقيته غارق في العتمة.
ذكّرني هذا المنظر بشخصٍ كان قد اختفى في زوايا من الذكريات الدفينة.
كأن حضوره القديم يشبه ضوء القمر؛ لا يصدر من ذاته، بل ينعكس من مكانٍ آخر.
عندها تذكرت معلومة قرأتها سابقًا عن الأجرام السماوية وأنها تُقسَم لقسمين:
- أجسام تشعّ ضوءها من ذاتها؛ فهي مصدر للضوء الذي يتكوّن من داخلها مثل الشمس والنجوم.
- أجسام مثل الكواكب والأقمار والكويكبات، لا تملك ضوءًا خاصًّا، ولكنها كتل صمّاء تعكس ضوء الشمس فقط.
ولهذا السبب تمامًا تختفي الأجسام من النوع الثاني حين تغرب عنها الشمس، مثل أطوار القمر التي تتغيّر حسب زاوية انعكاس ضوء الشمس عليه.
تلك الحقيقة جعلتني أتأمّل وأعكس ذلك على حالة البشر. فكثيرٌ من الناس يستمدّون أهميتهم من المسمّى الوظيفي والمنصب، فيكون هو مصدر “ضوئهم”.
لكن… ماذا يحدث إذا أُزيل هذا المنصب؟ بعيدًا عن اللقب، ما القيمة التي تضيفها أنت؟ ما الذي يميّزك فعلًا عن الآخرين؟
حين يسقط القمر من سماء المناصب
التقيتُ بذلك الشخص المنسيّ في أحد المؤتمرات، كان يجلس وحيدًا، وإلى جواره صديقه العزيز الذي لمحني من بعيد، ثم أتى مسرعًا يدعوني لأسلّم عليه.
هذا الشخص، كان -في وقتٍ سابق- يحتلّ أحد أعلى المناصب في مجالنا؛ يأمر وينهى، ويهابه الجميع.
إلى أن تغيّر المدير التنفيذي، فتبدّل هو أيضًا، واختفى اسمه من الواجهة في لحظتها. فأصبح منسيًّا.
عندما رأيته، عادت إليّ “ذكريات قديمة” ومواقف وقصص من تلك الأيام أثناء تولّيه القيادة في ذلك المنصب. ولكن سرعان ما صدمت…
تلك الذكريات ليست قديمة على الإطلاق، هي فقط تبدو كذلك؛ فإقصاؤه كان العام الماضي فقط!
في السابق، كان الناس يتزاحمون ليتودّدوا إليه بمختلف الطلبات. ولكن هذه المرّة، لم يكن هناك الكثير للتحدث عنه حين التقيت به. لذا انسحبتُ بهدوء قبل أن يتحوّل الصمت إلى حرج، بعدما بدأنا نتبادل نظراتٍ متقطّعة يمنةً ويسرة.
في نهاية ذلك المؤتمر، شعرت بالحزن لأنني لم أعد أتذكّر أسماء الكثير من الناس، بل ألقابهم فقط: “مدير عام”، “رئيس قسم”، إلخ…
ومع مرور الوقت لاحظتُ كيف تبقى المسميات ثابتة بينما يتبدّل داخلها الأشخاص. وكيف أن كثيرًا من التفاعلات بين الناس تُدار بمنطق: “ماذا سأستفيد من منصب هذا الشخص؟” فيرون انعكاس المنصب ولا يرون قيمة الإنسان.
كما يعتمد القمر على الشمس ليشع ويبرُز ويُنير، يعتمد كثير من المهنيين على المنصب والمسمّى ليكونا المرآة الوحيدة لضوئهم.
ما المِعيار الحقيقي؟
اسأل نفسك: كيف يتحدّث الآخرون عنك؟
- هل يقولون: “فلان شاطر، يقدر يسوّيها”؟ حينها يكون اسمك مرتبطًا بالقدرة والقيمة.
- أم يقولون: “أعرف رئيس القسم… بيمشيها”؟ حينها لا يذكرونك أنت، بل يذكرون “ال” التي تسبق اسمك.
المشكلة أنّه عندما يتغيّر صاحب اللقب، لا يلقي الناس بالًا ويتناسون الشخص بسرعة مذهلة.
أما القيمة الحقيقية فتبقى مرتبطة بالاسم نفسه وقد تمتد لمئات السنين حتى.
انظر إلى ألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية حينما صاغها قبل أكثر من مئة عام ثمّ فتحت بابًا لاكتشافات نال بسببها كثير من العلماء جوائز نوبل.
الناس لا يقولون “الدكتور أينشتاين”. بل أن وقعها يبدو مصغِّرًا له. وذلك لأن قيمة ما قدّمه بعقله جعلت قيمة اسمه أكبر من أي لقب.
فأين القيمة الداخلية؟
القيمة الداخلية تجعلك تشعّ دون أن يهدّد أحدٌ هذا الضوء حين تغرب الألقاب التي كنت تعكسها.
سألت نفسي: ما الذي سيبقيني مميّزًا حين يخفت صدى العبارات البرّاقة وتتلاشى المسميات المكرّرة؟
كيف أحوّل صفاتي الأصيلة إلى قيمةٍ تشعّ من داخل اسم “عبدالله”، فتحجب على كل “ال…” زائدةٍ لا تضيف إليه شيئًا؟
ماذا يبقى إذا سقطت الألقاب؟
صديقي العزيز عبدالإله برناوي يسأل دائمًا في ورش العمل التي يقدّمها:
“ما الذي سيبقى إذا سقطت المناصب والألقاب؟”
إجابتي:
إن لم يكن لديك مصدر قيمة داخلي، فحين تغرب الشمس سيطفأ ضوءك.
ابنِ نجمك الداخلي… ليبقى ضياؤك حتى عندما تغيب شمس المناصب.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى
