كنت جالسًا في مقهى أعمل على مشروع مهم، أو هكذا كنت أعتقد. أمامي جهاز اللابتوب، فنجان القهوة الذي برد منذ فترة، وهاتفي الذي التقطته أكثر مما يجب. كنت أتنقل بين النوافذ المفتوحة، أكتب قليلاً، أتوقف، أراجع ما كتبته، ثم أعود إلى تصفح هاتفي وكأنني أبحث عن شيء غير موجود.
لكن على الطرف الآخر من الغرفة، كان هناك شخص آخر. فتح جهازه، بدأ يكتب بسرعة، لم يرفع رأسه، لم يلمس هاتفه، ولم يطلب إعادة تسخين قهوته مثلما أفعل عندما أبحث عن استراحة وهمية. بعد أقل من ساعتين، أغلق جهازه، نهض بهدوء، ومشى للخارج كأنه أنهى مهمته بنجاح.
راقبته دون أن أدرك، ثم نظرت إلى شاشتي. ثلاث ساعات مرّت، ولم أحرز سوى تقدم بسيط. ماذا فعل هذا الشخص بشكل مختلف؟ هل كان أكثر ذكاءً؟ هل يمتلك خبرة لا أمتلكها؟ أم أن هناك شيئًا آخر يحدث هنا؟…
مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ نمطًا مشتركًا بين هؤلاء الأشخاص الذين يبدون وكأن لديهم ساعة إنتاجية مختلفة عن البقية. ليس الأمر أنهم يعملون أكثر، بل إنهم يعملون بطريقة تجعل كل دقيقة تحتسب.
“هم لا يسمحون للعمل بأن يتمدد ليسع الوقت المتاح، بل يجعلون الوقت يتقلص ليناسب العمل المطلوب.”
حين بدأت أراقب أكثر، أدركت أن الفرق ليس في المهارات أو حتى الذكاء. كان هناك شيء آخر، شيء يجعلهم ينجزون في أربــع ساعات ما يحتاج غيرهم إلى يوم كامل لإنجازه.
أحد أكثر الفروق وضوحًا هو أن هؤلاء الأشخاص يدركون أن الإنتاجية ليست عن عدد الساعات، بل عن جودة التركيز فيها.
عندما يجلسون للعمل، فإنهم يعملون فقط. لا يوجد تصفح جانبي، لا يوجد رد سريع على رسالة صديق، ولا يوجد تفكير في مهام أخرى أثناء تنفيذ المهمة الحالية. هم يخلقون عالماً صغيرًا خاصًا بهم خلال تلك الساعات، حيث لا يوجد شيء آخر سوى المهمة التي أمامهم.
في المقابل، معظم الناس يعملون بطريقة تشبه فتح عشرات النوافذ على المتصفح ثم التنقل بينها دون إغلاق أي منها. ينتقلون بين المهام باستمرار، يتركون نصف فكرة هنا ونصف مشروع هناك، ثم يتساءلون لماذا يشعرون بالتعب دون إنجاز حقيقي.
الأمر الآخر الذي لاحظته هو أن هؤلاء الأشخاص لا يسمحون للمهام أن تأخذ وقتًا أكثر مما تستحق. هناك قاعدة نفسية تقول:
“إن العمل يتمــــــــــــــــــــــــدد ليملأ الوقت المتاح له”
وهذا بالضبط ما يحدث عندما نخصص يومًا كاملًا لإنهاء شيء يمكن إنجازه في ساعتين. الشخص المنتج يضع لنفسه حدودًا، كأن يقول: “سأنهي هذا التقرير في ساعتين”، ثم يلتزم بذلك كأنه موعد نهائي لا يقبل التفاوض.
في المقابل، الشخص العادي يقول: “سأعمل على التقرير اليوم”، ثم يجد نفسه يقضي نصف الوقت في التعديل، والنصف الآخر في التفكير في تعديلات إضافية لم تكن ضرورية منذ البداية.
ومن الأمور اللافتة أيضًا أن هؤلاء الأشخاص لديهم إحساس واضح بما هو مهم وما هو مجرد إهدار للوقت. ليس كل اجتماع ضروري، وليس كل بريد إلكتروني يحتاج إلى رد فوري، وليس كل فكرة تستحق أن تُنفذ الآن. هم:
“لا يسمحون للأشياء الصغيرة بسرقة تركيزهم، لأنهم يعرفون أن التشتيت ليس مجرد لحظة عابرة، بل استنزاف مستمر للطاقة والوقت.”
حين عدت إلى مكتبي في اليوم التالي، قررت تجربة الأمر بنفسي. أغلقت كل النوافذ غير الضرورية، وضعت مؤقتًا زمنيًا، وأخبرت نفسي أنني سأعمل بلا انقطاع لمدة 90 دقيقة. لم يكن الأمر سهلاً، لكن مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ الفرق. في نهاية اليوم، لم يكن الشعور مجرد رضا عن إنجاز المهام، بل شعور بالتحرر من الفوضى التي كنت أسمح لها بالتحكم بي.
خاتمة: كيف تعمل حقًا؟
ربما الإنتاجية ليست أن تعمل أكثر، بل أن تفهم كيف يعمل عقلك. البعض يتعامل مع الوقت وكأنه مرن لا نهاية له، والبعض الآخر يتعامل معه وكأنه مورد نادر. والفرق بين الاثنين هو ما يحدد كم من حياتهم سيضيع في وهم الانشغال.
في المرة القادمة التي تجد نفسك تعمل لساعات دون نتيجة، اسأل نفسك: هل أنا فعلاً أعمل، أم أنني فقط أقضي وقتًا في محاولة الإحساس بالعمل؟