في أحد الأيام، كنا نتمشى معًا بعد العمل عندما توقف فجأة أمام سيارة جديدة معروضة في أحد المعارض. نظر إليها طويلًا، ثم التفت إليّ وقال بنبرة تمزج بين الرغبة والتردد:
“ودي أغير سيارتي… تعبتني، بس عندي التزامات كثيرة، والمبلغ اللي ناقصني مو كبير، بس الميزانية ضيقة“
كان يتحدث عن سيارته القديمة وكأنها عبء نفسي أكثر منها مجرد وسيلة تنقل. ومع كل مشكلة فيها، كانت تتجدد رغبته في التغيير، لكنه دائما يصطدم بالالتزامات والرواتب المقيدة.
في أحد الأيام، عاد من العمل بنظرة مختلفة. قال لي:
“قررت أشتغل بشيء بسيط جنب شغلي… بس بشيء أحبه فعلًا.”
وقتها تذكرت أنه كان دائمًا شغوفًا بتطوير الآخرين، وله اطلاع واسع في مجالات التخطيط المهني، وكان يستمتع بإعطاء النصائح للزملاء، ويساعدهم في تحسين سيرهم الذاتية، واختيار تخصصاتهم.
قال لي بابتسامة:
“فتحت حساب بسيط، وبدأت أقدم جلسات career coaching بعد الدوام. مو كثير، بس يكفي يغطي اللي ناقصني… ويمكن أكثر.”
لم يكن ذلك عن السيارة فقط. بل عن شيء أكبر: تحويل شغفه إلى قيمة… وقيمته إلى مصدر دخل.
الوظيفة ليست المصدر الوحيد
كثير من الناس يعيشون على فكرة أن “الوظيفة هي الرزق”، بينما في الحقيقة، الوظيفة هي مجرد أحد أبواب الرزق. وهناك أبواب أخرى كثيرة… بعضها قد يكون داخلنا.
ما فعله صديقي لم يكن فقط عن الذكاء المالي، بل عن الوعي الذاتي. عرف مهارته، وجد طريقة لتقديمها، ووضع لها قيمة. لم ينتظر فرصة، بل خلقها.
قيمة الفرصة… والمصادر التي لا نراها
حين نتحدث عن الدخل، كثيرًا ما نفكر بالأرقام المباشرة: الراتب، العلاوة، العائد.
لكن هناك قيمة أخرى غالبًا ما نهملها، وهي قيمة الفرصة (Opportunity Value) — أي ما يمكن تحقيقه لو استغللت وقتك ومهاراتك بشكل مختلف.
صديقي لم يكن ينقصه المال فقط، بل كان يملك ساعات فراغ بعد العمل، ومهارة لم تكن تُستغل. ومعًا، كانت تلك العناصر تشكّل ثروة غير مرئية.
هذا النوع من القرارات هو مثال دقيق على ما يسمى في الاقتصاد بـ “تكلفة الفرصة البديلة”: حين نستخدم وقتنا في عمل شيء معين، فإننا ندفع ثمن الفرصة التي فاتتنا في استخدام هذا الوقت بطريقة أخرى قد تكون أكثر إنتاجًا.
ساعات الفراغ التي تقضيها في التمرير عبر الهاتف، أو مشاهدة شيء دون معنى، ليست مجرّد لحظات عابرة… بل فرص مهدورة لبناء شيء يخصك.
في علم النفس السلوكي، عندما يكون لدى الإنسان أكثر من مصدر للدخل، يشعر بمستوى أعلى من التحكم في حياته، حتى لو لم تكن هذه المصادر كبيرة وتدر الكثير من المال. مجرد الإحساس بأنك تستطيع الاعتماد على نفسك، وبأن لديك بابًا ثانيًا، يُخفف كثيرًا من التوتر والضغط النفسي.
والأمان لا يأتي فقط من المال، بل من معرفتك أن لديك القدرة على توليده متى احتجت — وهذه القدرة تبدأ حين ترى في وقتك ومهاراتك شيئًا له قيمة سوقية.
التغيير لا يبدأ بمشروع… بل بسؤال
هل كان صديقي يخطط أن يصبح مستشارًا؟ لا.
هل استقال من عمله؟ أبدًا.
كل ما فعله هو أنه سأل نفسه:
“ما الذي يمكنني فعله باستخدام ما أعرفه… دون أن أغيّر كل شيء؟”
ومن هذا السؤال… جاءت السيارة. لكن الأهم من السيارة؟
جاء شعوره أنه ليس محصورًا في “راتب”، بل أن له يدًا في رزقه، وأن مهارته تستحق أن تُدفع عليها قيمة.
في النهاية…
بعض الاحتياجات المادية تكشف لنا عن أشياء أكبر بكثير.
ربما لا تفتقد المال، بل رؤيتك لوقتك ومهاراتك على أنها فرص حقيقية، لا مجرد تفاصيل.
فكر في وقتك:
- كم ساعة في الأسبوع تمرّ دون أن تُستغل؟
- كم مهارة تملكها لم تخرج للنور؟
- كم فرصة تفقدها دون أن تشعر… فقط لأنك لا تراها على شكل “راتب”؟
اسأل نفسك:
هل تنتظر الفرصة؟ أم تبنيها؟
وهل تعيش على ما يُعطى لك… أم على ما يمكنك أن تخلقه؟
لأن الحقيقة هي:
الدخل الإضافي لا يبدأ من المال، بل من احترامك لما تملكه في داخلك.
الكاتب: عبدالله الزهراني
النشرة من إعداد: إنعام مصطفى