لم يكن يبحث عن وظيفة جديدة. كان مرتاحًا في عمله، راضيًا عمّا يقدّمه، ولم يكن يفكر في التغيير. لكنه فوجئ، كما يحدث أحيانًا، عندما تأتي الفرص دون سابق إنذار.
أحد أصدقائي المقرّبين، شخص أثق به كثيرًا، تواصل معي متحمسًا. قال إن شركة مرموقة تواصلت معه فجأة عبر صديق مشترك بيني وبينه، أخبره هذا الصديق بأن الشركة تبحث عن شخص بمؤهلاته.
لم يكن مجرد عرض عابر، بل كان الوصف الوظيفي وكأنه خُصص له. “أخبروني أنهم مهتمّون جدًا، وأتوقع أنهم سيتواصلون معي خلال أيام”، قالها وهو يبتسم بثقة.
تابعت معه تطورات القصة. بالفعل، بعد أقل من يومين، تلقى اتصالًا من أحد كبار المديرين في الشركة. حديثهم معه كان حماسيًا، لم يكن هناك حديث عن مقابلات تقليدية أو تقييمات مطوّلة، بل جلسات تعارف، ونقاشات عن الأهداف المستقبلية، تفاصيل عن الفريق الذي “سينضم إليه”. بدا وكأن كل شيء يسير نحو إغلاق الصفقة…
لكن بعد أسبوع تقريبًا، جاءه إيميل قصير:
“نشكرك على وقتك، لكن…”
أرسل لي الرسالة، مذهولًا. لم يكن يفهم ما الذي حدث. “كيف؟! كل الإشارات كانت تقول إن القرار اتُّخذ!” قالها وهو غارق في حيرته، يبحث عن تفسير لا يأتي.
هنا توقفت معه، وبدأنا نحلل ما حدث. الحقيقة كانت بسيطة ومؤلمة في آن:
لم يكن هناك أي شيء موثّق. لا عرض رسمي، لا عقد، لا التزام مكتوب. فقط إشارات، نبرة صوت، وعبارات مشجّعة تم تفسيرها على أنها تأكيد. وكان من السهل أن ينشأ انطباع وهمي بأن الأمور قد حُسمت… دون دليل.
قلت له حينها:
“تعامل مع أي فرصة بنفس طريقة تعاملك مع الأرقام… لا تعتمد على الظن، ولا تملأ الفراغات بتوقعاتك. إذا لم يُكتب شيء، فلا شيء محسوم.”
تلك التجربة كانت درسًا ثمينًا له، ولي أيضًا كمراقب. كم مرة نبني قراراتنا على انطباعات؟ كم مرة نغفل عن الحقيقة لأننا نقرأ بين السطور ما نحب أن نراه، لا ما هو موجود فعلًا؟
الواقع لا يُفهم من كثافة الحماس أو كثرة الوعود اللفظية. الواقع يُبنى على ما هو موثق فقط.
الخاتمة: الحديث لا يُغني عن الإثبات
قبل أن أُطوي هذه الصفحة تمامًا، خطر في بالي سؤال بسيط: ماذا لو كان كل شيء موثقًا؟ ماذا لو طُلب منهم إرسال التفاصيل رسميًا بدلًا من الاكتفاء بالوعود الشفهية؟
ربّما كانت النهاية ستختلف. أو على الأقل، لكانت الصدمة أهون.
وقتها أدركت أن التوثيق ليس رفاهية… بل ضرورة لحماية نفسك من خيبة أنت في غنى عنها.
وأدركت أيضًا أن مهما بدت الأمور واعدة في ظاهرها، فإن غياب التوثيق يسلبها قيمتها. فبدون ما يثبتها، تبقى مجرد انطباعات… لا يُعوّل عليها.
الكاتب: عبدالله الزهراني
النشرة من إعداد: إنعام مصطفى