حين تطغى الكلمات اللامعة على الرسالة الحقيقية

في نهاية الأسبوع، دُعيت لحضور احتفال رسمي لإحدى الجمعيات.

كان المكان أنيقًا جدًا: فندق فخم، قاعة مذهّبة، أنوار ناعمة تعكس كل ما يوحي بالفخامة والرّقي. كان كل شيء يبدو في مكانه الصحيح، إلى أن بدأ رئيس الجمعية كلمته…

وقف على المنصة بثقة، وبدأ يتحدث عن إنجازات الجمعية. الكلمات تتطاير في القاعة: “نقلة نوعية”، “إعادة تعريف المفهوم”، “ابتكار حلول استراتيجية مستدامة”… مصطلحات لامعة، بعضها بدا مألوفًا، والبعض الآخر… أقرب إلى الفراغ.

مع الوقت، أدركت أن أغلب ما قيل لا علاقة له بالواقع. بل إن رئيس الجمعية نفسه – كما أعلم – لا يعرف الكثير عن هذه الإنجازات.

بعض من حضروا كانوا مبهورين. البعض الآخر تبادل نظرات الاستنكار. وهناك فئة ثالثة… بدت مترددة: هل هذا هراء فعلاً؟ أم أنني فقط لا أفهمه؟

لاحقًا، وفي حوارات جانبية، سألت بعض المبهورين: “ما الذي أعجبك تحديدًا؟”

فكانت الإجابات ضبابية… وداخلها اعتراف ضمني: “لا نعلم، لكن بدا وكأنه شيء كبير.”

 

الهراء… حين لا يكون مهمًا أن تكون الرسالة صحيحة، بل أن تبدو كذلك

الهراء – كما عرّفه الفيلسوف Harry Frankfurt – ليس كذبًا. الكاذب يعرف الحقيقة ويحاول إخفاءها. أما ناطق الهراء”، فهو لا يهتم أصلًا بالحقيقة، بل فقط بأن تخدم رسالته هدفًا معينًا.

 

والهراء – كما فهمته في ذلك اليوم – يتكوّن من ثلاث ركائز:

  • الناطق به: غالبًا لديه أهداف خفية (شهرة، ترقية، دعم، سيطرة).
  • الرسالة نفسها: كلمات فخمة، لغة براقة، مصطلحات ضبابية لا يمكن الإمساك بها.
  • المتلقي: تتفاوت قابليته لتصديق الهراء حسب قدرته على التحليل، أو رغبته في أن يكون “متفتح الذهن”، فيقبل ما لا يُفهم.

 

فهل الهراء سلبي دائمًا؟

الجواب ليس بسيطًا.

أحيانًا يكون الهراء ضارًا، خصوصًا حين يُستخدم لتضليل الناس، أو لإلهائهم عن قضايا أهم، أو لتلميع من لا يستحق.

لكن أحيانًا، قد يكون للهراء استخدام “ناعم” أو حتى ضروري — مثل أن تمدح متدربًا بتضخيم بسيط لجهوده قبل تقديم النقد، أو أن تروّج لنفسك في ملف وظيفي بلغة دعائية.

 

السياق يصنع الفارق… والكمية كذلك

وفقًا لـ Joshua Wakeham، كثير من الاجتماعات والمؤسسات يتوقع منها درجة معينة من الهراء. إذًا فالمشكلة ليست في وجوده، بل في أن نأخذه بجدية زائدة.

وفي رأي Neil Postman، الهراء يُصبح خطرًا حين يبدأ في معاملة الناس بلغة لا تحترم عقولهم — حين يصبح كثيفًا، متكرّرًا، ومجردًا من المعنى حتى لا يمكن تمييزه عن الحقيقة.

 

كيف نعرف أننا نُخدع؟

يقترح الباحث André Spicer اختبارًا بسيطًا، أسميه اختبار المناعة من الهراء”:

  • هل ما بُقال مبني على وقائع؟
  • هل هو منطقي ومتسق؟
  • هل هو واضح، أم غارق في مصطلحات مبهِرة وغامضة؟
  • هل للمتحدث دوافع خفية؟
  • هل الرسالة تُلهينا عن قضية أهم؟

إذا مرّت الرسالة بهذه الأسئلة بسلام… فهي تستحق أن تُؤخذ بجدية.

 

في النهاية…

ذلك المساء لم يكن مجرد احتفال، بل درس في “قوة الإقناع الخالي من الجوهر”.

لأن الهراء لا يحتاج أن يكون صادقًا… يكفي أن يبدو لامعًا، وفي اللحظة المناسبة.

فكّر:

  • كم مرة صدّقت شيئًا فقط لأنه بدا “قويًا”؟
  • وكم مرة مرّ أمامك هراء… وابتلعته بصمت؟

لأن الحقيقة هي:

ليس أخطر ما في الهراء… أنه يُقال،
بل أن يمرّ بيننا دون أن يرفَع أحد يده ليسأل:
“هل يُعقل ما قيل للتو؟”
الهراء لا يعيش لأنه مُقنع…
بل لأنه لم يجرؤ أحد على قول: “هذا هراء.”

 


 

الكاتب: عبدالله الزهراني

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى