حين لا يكون القرار “أبيض أو أسود”: عن الأخلاق والسياسة في بيئة العمل

في أحد الاجتماعات التي امتدت أكثر مما ينبغي، كنت أراقب زميلاً يتحدث بحماس عن مشروعٍ نعلم جميعًا أنه لم يُنجز بالطريقة التي وُصف بها.
لكن حديثه كان مرتبًا، مؤثرًا، مدعومًا بالأرقام، وقد نجح في كسب إعجاب الإدارة.

ولكن في لحظة ما، التفت المدير إليّ وسأل:

“هل تؤكد ما قاله؟”

سكتُّ لثوانٍ طويلة. لم تكن الإجابة عن المشروع فقط… كانت عن شيء أعمق:

هل أتمسك بالحقيقة المجردة؟ أم أساير السياق؟

هل ألتزم بمبادئي؟ أم أوازن بين المبدأ وبين ما يبدو “مناسبًا” في هذا الموقف؟

 

اليد القذرة: عندما يكون الخيار الأخلاقي معقّدًا

في الفلسفة السياسية، يُطرح مفهوم “مشكلة اليد القذرة” (The Dirty Hands Problem) ليصف الموقف الذي يُضطر فيه القائد لاتخاذ قرار لا أخلاقي لتحقيق نتيجة تخدم المصلحة العامة.

لكن السؤال هو: هل تبرّر النتيجة الوسيلة؟

 

الفيلسوف مايكل والزر يقول إن من في موقع السلطة لا يستطيع أن يكون “نقيًا” دائمًا، لأن طبيعة العمل السياسي تتطلب قرارات فيها مزيج من الأخلاق والبراغماتية.

لكن ماذا عن الموظف العادي؟

عن ذلك الشخص في المؤسسة الذي لا يملك السلطة… لكنه يُطلب منه اتخاذ موقف؟ أو السكوت؟ أو التبرير؟ أو “اللعب” داخل ديناميات السياسة؟

ماذا عنك انت عزيزي القارئ؟

بين المبادئ والسياق: هل نتمسك أم نبرّر؟

الأستاذ Chris Provis تحدّث عن هذا التوتر بشكل واقعي. هو لا يدعو للتخلي عن الأخلاق، بل لفهم أن اتخاذ القرار الأخلاقي لا يتم بمعزل عن السياق السياسي.

فالقاعدة هنا ليست الانفصال عن المبادئ، بل بالإجابة عن الأسئلة التالية كل مرة:

  • هل هذا التصرف مبرر في السياق؟
  • ما الأثر المحتمل على سمعتي الشخصية؟
  • هل سأتمكن من تبرير هذا القرار أمام الآخرين… بشكل أخلاقي؟
  • هل ما أفعله يبدو صحيحًا فقط… أم هو صحيح فعلًا؟
  • أين أضع “خطوطي الحمراء” التي لا أتجاوزها مهما كان المبرر؟

 

الموظف في قلب المعادلة الأخلاقية

نحن لسنا روبوتات تتبع القوانين المجردة دائمًا.

ولسنا أيضًا سياسيين يُبرّرون كل شيء باسم “المصلحة العليا”.

نحن موظفون نعيش في بيئات فيها ضغوط، توازنات، منافسات، وتوقعات غير مكتوبة.

وهنا يكون الذكاء الحقيقي في فهم أن القانون والمبدأ ليسا دائمًا كافيين وحدهما.

نحن نحتاج إلى:

  • حس إداري مرهف.
  • وعي بالتأثيرات طويلة المدى على سمعتنا.
  • إدراك أن ما يحدث لا يُحكم عليه فقط بما جرى، بل بكيفية تفسيره واستقباله من الآخرين.
  • والأهم: أن نعرف حدودنا التي لا نساوم عليها، مهما بدا الأمر مغريًا.

 

القيادة الأخلاقية تبدأ من الموظف

القيادة ليست منصبًا. بل هي موقف.

ومن يضع حدوده الأخلاقية بوضوح، سيُحترم حتى في أقسى البيئات.

لكن ذلك لا يعني أن نكون متشددين أو مثاليّين “إلى حدّ يُفقدنا المرونة أو الواقعية”، بل أن نتعلم كيف نتخذ قرارات مركّبة دون أن نخسر أنفسنا.

في النهاية…

ذلك السؤال في الاجتماع لم يكن مجرد استفسار عابر.

بل لحظة اختبار. لا للحقيقة فقط… بل لشجاعتي، ووعيي، ولقُدرتي على اختيار المنطقة الرمادية، دون أن أفقد نقائي.

فكّر:

  • هل مواقفك في العمل تُمليها عليك مبادئك؟ أم تخففها المجاملات والسياقات؟
  • وهل لديك خطوط لا تتجاوزها؟ أم أن المبررات دائمًا جاهزة؟

لأن الحقيقة هي:

لسنا دائمًا قادرين على الخروج من كل موقف بأيدٍ نظيفة…

لكننا نستطيع أن نخرج منه بضميرٍ حي، وأثرٍ لا نخجل من تتبّعه.

فالنقاء الكامل قد لا يكون ممكنًا،

لكن اليقظة والصدق مع النفس… تلك هي الأخلاق التي لا تتلوث.

ركن الراحة: مسند القدم

راحة الجلوس لا تبدأ من الكرسي فقط، بل أحيانًا من الأرض… أو مما نضعه تحت القدمين.
قطعة صغيرة مثل مسند القدم تصنع توازنًا بين الجسد والانتباه.

اطّلع عليه من هنا — فلعله اللمسة التي تنقص مكتبك.

 


 

الكاتب: عبدالله الزهراني

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى