في صباح أحد الأيام، جلست في زاوية المقهى الذي اعتدت الذهاب إليه حين أحتاج إلى التركيز. أخرجت اللابتوب، وضبطت جلستي، وبدأت أكتب.
مرّت عشر دقائق… خمس عشرة… نصف ساعة… ولا كلمة كُتبت. كنت أحدق في الشاشة وكأن الصفحة البيضاء تمارس نوعًا من السخرية الصامتة. شعرت أن كل أفكاري محاصرة، وكل محاولاتي محبوسة في مكانها…
الغريب أنني جئت إلى هذا المكان لأنني أعرف أنه يمنحني تركيزًا، وأن الجو فيه “يشجع على الإنتاجية” كما يقولون. لكن في ذلك اليوم، لم يعمل شيء. شعرت وكأن الضجيج من حولي أعلى من المعتاد، الإضاءة أضعف، والطاولة ضيقة أكثر من اللازم. حتى الموسيقى الخلفية، التي كنت أستمتع بها سابقًا، أصبحت مصدر إزعاج لا ينتهي.
وهنا أدركت شيئًا لم أكن منتبهًا له:
البيئة التي نعمل فيها لا تؤثر علينا فقط، بل تشكّلنا لحظيًا.
نحن لا نعمل في الفراغ
كثيرًا ما نتحدث عن أهمية التحفيز الداخلي، والانضباط، وإدارة الوقت. وكلها أمور مهمة بلا شك. لكننا نغفل في كثير من الأحيان عن عنصر آخر لا يقل أهمية: المكان الذي نعمل فيه.
البيئة من حولنا — الإضاءة، الصوت، المساحة، الروائح، الألوان — تلعب دورًا غير مرئي في تشكيل مزاجنا، تركيزنا، وحتى نوعية قراراتنا.
في علم النفس، هناك ما يُعرف بـ التحفيز السياقي (Contextual Priming)، وهي الظاهرة التي يحدث فيها أن عناصر البيئة المحيطة تثير فينا حالات ذهنية معينة. مثلًا، وجود نباتات خضراء في المكتب قد يعزز الهدوء، في حين أن زحمة المكان قد ترفع منسوب التوتر دون أن نشعر.
البيئة ليست مجرد خلفية… بل شريك في العمل
فكّر في الأمر: هل تنتج أفضل أفكارك وأنت في مكان مزدحم، صاخب، فوضوي؟
وهل تشعر بالحيوية والوضوح حين يكون مكان عملك نظيفًا، مضاءً بشكل طبيعي، منظمًا؟
أنا شخصيًا لاحظت أن حتى أصغر التفاصيل — مثل وجود كرسي مريح أو نافذة مفتوحة — يمكن أن تغيّر يومي بالكامل.
أحد الزملاء كان يمر بفترة ركود في العمل، وحين بدأ يشتكي من فقدان التركيز، سألته عن مكتبه. قال إنه يجلس في ركن معتم من المكتب، قريب من طابعة مزعجة وممر لا يتوقف فيه الناس عن المرور. قلت له ببساطة: “جرّب تغيّر مكانك”. وبعدها بأيام، عاد ليقول:
“ما كنت أتخيل أن تغيير بسيط يسوي كل هذا الفرق!!”
تأثير بيئة العمل على العقل
علم الأعصاب يُعزّز هذه الفكرة. دراسات التصوير الدماغي أظهرت أن الأماكن المفتوحة والمضيئة تنشّط مناطق في الدماغ مرتبطة بالتركيز واتخاذ القرار، بينما تقل هذه النشاطات في البيئات المغلقة أو المزدحمة بصريًا.
الضوضاء أيضًا، حتى لو لم تكن مزعجة بالمعنى التقليدي، فإنها تؤثر على قدرة الدماغ على الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها بعمق.
أما الألوان، فليست مجرد ديكور، بل ترسل إشارات عصبية ترتبط بالحالة المزاجية — الأزرق يعزز التركيز، و الأخضر يبعث على الهدوء، و الأحمر قد يرفع مستويات التوتر والانتباه الحاد.
إعادة تشكيل بيئتنا الداخلية
قد تتساءل الآن: ولكن ما الحل؟ هل نحن رهائن للمكان؟
ليس بالضرورة. الوعي هو الخطوة الأولى. حين نبدأ في ملاحظة كيف تؤثر البيئة علينا، يمكننا أن نتخذ قرارات أكثر وعيًا.
في بعض الأحيان، تغيير بسيط مثل ترتيب المكتب، أو تخصيص زاوية محددة للعمل، أو إضافة نبتة صغيرة، يمكن أن يصنع فرقًا كبيرًا. في أحيان أخرى، يكون من الضروري أن نغير المكان بالكامل، أو نبحث عن “ملاذ إنتاجي” خارج المألوف.
بل إن بعض الشركات الكبرى باتت تعتمد على علم التصميم البيئي لزيادة إنتاجية موظفيها — مساحات مفتوحة، إضاءة طبيعية، زوايا هادئة للتفكير، غرف تعزز التفاعل الاجتماعي… كل ذلك نتيجة إدراك عميق بأن الأداء لا ينبع فقط من الداخل، بل يُحفّز من الخارج أيضًا.
الخاتمة: هل تتسلل بيئتك إليك وتؤثر سلبًا على أدائك؟
لا تقلل من شأن المكان الذي تعمل فيه. البيئة ليست فقط حوائط وأثاث… بل هي عامل نفسي، عصبي، وعاطفي.
عندما تشعر أن أفكارك لا تتحرك، وأن تركيزك يتبخر، قبل أن تلوم نفسك، خذ لحظة، وانظر حولك:
هل البيئة التي تعمل فيها تدعمك؟ أم تخنقك؟
وأخيرًا… اسأل نفسك كل فترة:
“ما هو التغيير البسيط في مكاني… الذي يمكنه أن يحرّك شيئًا بداخلي؟”
الكاتب: عبدالله الزهراني
النشرة من إعداد: إنعام مصطفى