كيف تؤثر بيئة العمل على صوتك الداخلي؟

كان من أكثر الزملاء الذين يثيرون إعجابي. ليس فقط بسبب براعته المهنية، بل لأنه كان يعمل بطريقة تعكس شخصيته الحقيقية: هادئ، صادق، لا يحب الزيف، ولا يجيد التكلّف.
كل من يتعامل معه يشعر بنوع من الراحة، وكأنهم لا يتحدثون إلى موظف يؤدي مهامه، بل إلى إنسان يفهمهم ويهتم حقًا بما يقولون.

 

في أحد اللقاءات الأخيرة بيننا، لاحظت عليه شيئًا مختلفًا. هذه المرّة، بدا مترددًا، صوته أقل حماسة من المعتاد. وبعد دقائق من الحديث، قالها:

“تتذكر فلان؟ صديقي اللي ترك مؤسسته وانتقل لوظيفة جديدة براتب أعلى من راتبي؟”

استغربت منه وردّيت عليه مستنكرًا: “ومن متى تقارن نفسك بالناس؟”

“مو مهم” رد علي “مشيت على خُطاه. نفس الجهة. الراتب أقل من الضعف تقريبًا، والمسمّى أعلى.”

سألته، بتلقائية: “كويس؟ كيف الوضع؟”

رد بعد لحظة صمت:
“ماديًا ممتاز… بس ما صرت أنا.”

 

صمته حمل أكثر من معنى. لم يكن يشكو من ضغط العمل أو المهام. كان يشكو من نفسه. من هذا الوجه الجديد الذي اضطر أن يرتديه كل يوم.

قال لي:

“أحتاج أحيانًا أن أمثّل دور مايمثلني بس عشان أمشي الأمور. زمان، كنت أتكلم مع الناس كأنهم بشر. الحين، لازم ألبس وجه مو وجهي، وأخفي نص شخصيتي عشان أنجز.”

كلماته وقفت عندي طويلاً…
كنت أعلم أن عمله السابق لم يكن الأفضل من حيث المزايا، لكنه كان ساحةً تعكس روحه فعلاً. مساحة يُسمح له فيها أن يكون نفسه، بكل ما تحمله الكلمة من صدق وتلقائية.

أما الآن، فيبدو أنه في وظيفة لا ينقصها المال، لكنها تطلب منه ثمناً آخر… نفسه.

 

في علم النفس، يشير مصطلح Cognitive Dissonance إلى التوتر الذي يشعر به الإنسان عندما يعيش في تعارض بين قيمه وتصرفاته. وقد تبيّن من أبحاث عديدة، منها ما نُشر في Journal of Personality and Social Psychology، أن هذا التوتر المزمن يؤدي مع الوقت إلى فقدان الرضا وحتى الإرهاق النفسي، حتى وإن كانت الظروف الخارجية – كالراتب أو المنصب – مثالية.

 

أذكر أن الفيلسوف الألماني هيغل تحدّث عن رغبة الإنسان في “الاعتراف”، وكيف أنها ليست مجرد طموح خارجي، بل حاجة نفسية داخلية لبناء الذات من خلال ما يراه الآخرون.
العمل في هذه الحالة يصبح ليس فقط وسيلة للعيش، بل مسرحًا لبناء الذات، وإثباتها، وتقييمها من خلال مرآة الآخرين.

 

لكن ماذا يحدث عندما تنال ذلك الاعتراف؟ ماذا يتبقى حين لا يعود هناك مركز أعلى، أو إنجاز أكبر، أو مديح أضخم؟

 

بعد فترة قصيرة من لقائي بهذا الزميل، جاءني عرض وظيفي ضخم من شركة كبرى. المنصب جذاب، الراتب مغرٍ، وكل شيء على الورق يقول: “خذه”. لكن في العمق، كان الأمر يتطلب دخول بيئة مختلفة تمامًا، بيئة شعرت معها أنني سأضطر للتنازل عن بعض القيم، وبعض الوقت، وربما كثير من الطاقة… لأجل شيء لا يمثلني تمامًا.

 

في علم النفس، يتحدث إدوارد ديتشي وريتشارد رايان عن نظرية التحفيز الذاتي (Self-Determination Theory)، ويقولان إن الإنسان لا يستمر في العطاء فقط بالدافع الخارجي، بل يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الاستقلالية، الكفاءة، والانتماء.

أي عمل لا يحقق هذه الثلاثة، مهما بدا جذّابًا من الخارج، لن يدوم تأثيره داخليًا.

 

في حالة صديقي، اضطر بأن يضحّي بالانتماء.
في حالتي أنا، سأضطر لأن أضحّة بالاستقلالية.

 

الاستقلالية في العمل تعني لي الكثير، هي تلك المساحة النفسية التي تمنحني حرية أن أكون أنا، أن أختار أسلوبي الخاص في التواصل، في اتخاذ القرار، في التفاعل.

أن أترك بصمتي كما هي، دون أن تُشوّه.
وقيمتها عندي أعلى بكثير من زيادة في الراتب أو منصب لامع…
لأنها ببساطة تساوي لي حريّتي.

 

في علم النفس التنظيمي، تعتبر الاستقلالية أحد أقوى مؤشرات الرضا الوظيفي والتحفيز الداخلي، كما يبيّن Deci & Ryan في نظرية ,“التقرير الذاتي” (Self-Determination Theory). فالعمل الذي يسمح لك بدرجة من الحرية في اتخاذ القرارات، وفي التعبير عن قيمك، يعزز الشعور بالمعنى والانتماء الحقيقي.

 

أما في بيئات العمل التي تُقيّد هذه المساحة، يبدأ الإنسان بالتحوّل إلى “نسخة وظيفية” من نفسه، مجردة من العفوية والصدق. وهذه ليست مجرد تفاصيل سطحية، بل أمور تمس جوهر التجربة اليومية في العمل. هذا الأمر قد يناسب بعض الشخصيات.

 

صديقي مثلًا، قيمة الاستقلالية لم تعني له الكثير. في عمله السابق لم يكن لديه تلك المساحة من الاستقلالية، فقط القدر المقبول. أما الانتماء والهويّة، فكانت تعني له كل شيء في داخله وهذا ما اكتشفه لاحقًا.

 

في الاقتصاد السلوكي، ثمة مفهوم مهم اسمه Cost of Identity Inconsistency — تكلفة عدم اتساق الهوية. وهو ببساطة يعبر عن الثمن النفسي والعقلي الذي يدفعه الإنسان عندما يعمل في مكان لا يتسق مع قِيَمه أو صورته الذاتية. قد لا يكون الثمن واضحًا فورًا، لكنه يظهر في شكل إنهاك داخلي، أو شعور غامض بفقدان البوصلة.

 

فكرت كثيرًا في العرض، ثم قررت رفضه. لم يكن القرار الأسهل، لكنه كان الأصدق لنفسي.

 

لماذا تقبل العروض؟

من تجربة زميلي ومن تجربتي، أدركت أن العمل لا يمكن أن يُختزل في الحياة. وأن صعود السلم الوظيفي لا يجب أن يكون بلا نهاية واضحة، أو بلا مراجعة متكررة.

ففي زمن تتداخل فيه الحدود بين العمل والهوية، وبين المنصب والمعنى، يصبح من السهل أن ننسى أنفسنا في خضم السعي.
أن نُستدرج نحو ما يبدو “أفضل” دون أن نسأل: أفضل من حيث ماذا؟ ولمن؟ وهل يناسبني ويناسب قيمي الجوهرية؟

 

لهذا نحتاج أحيانًا أن نسأل أنفسنا:

  • هل ما أفعله يضيف لي أم يستهلكني؟
  • هل أعمل لأن لدي رسالة أؤمن بها، أم لأن العمل هو الشيء الوحيد الذي أعرفه؟
  • هل أقبل العروض لأنني أريدها فعلًا… أم لأني لا أعرف كيف أقول “لا”؟

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى