في ليلة باردة، على بعد 100 كيلومتر من صخب الرياض، كنا في أحد المنتزهات البرية نتأمل السماء. كانت صافية بطريقة نادرة، وكأنها أرادت أن تشاركنا شيئًا من أسرارها. جلست أختي الصغيرة بجانبي، وأطلقت دهشتها وهي تنظر إلى السماء بسؤال بريء: “كم عدد النجوم!”
لم أجب مباشرة. نظرتُ معها إلى السّماء البعيدة، وشعرت لوهلة أننا لا نرى إلا القليل جدًا، صمتّ للحظة، ثم قلت لها بهدوء:
“ما ترينه يا عزيزتي… لا يمثل شيئًا يُذكر من عدد نجوم مجرتنا. فالناجح منها هو من يُرى فقط.“
في الحقيقة، نحن نرى نجمة واحدة فقط من كل 900 نجمة موجودة في الفضاء الواسع، أما البقية فلا تختفي، لكنها ببساطة لا تملك من الضوء ما يكفي لتُرى.
99.9% من النجوم في مجرتنا تُصنَّف كنجوم “قزمة” أو ما يُطلق عليه في أدبيات الفلك “نجوم فاشلة”. ليس لأنها بلا فائدة، بل لأن الضوء غير مسلّط عليها. ببساطة.
ذلك المشهد ظلّ يرافقني لأيام… كأنه كان يقول لي شيئًا لم أفهمه بعد.
وفي نهاية الأسبوع، وجدتني أسترجعه فجأة وأنا أجلس في مقهى، أستمع لحوار بين زملائي.
كانوا يتحدثون عن أحد “النجوم” في فريقنا — ذاك الذي صعد بسرعة، وأذهل الجميع بمهاراته.
لكن ما لفتني وقتها أن الحديث لم يكن عن إنجازاته، بل عن حضوره. عن صورته. عن كاريزمته المتفرّدة.
تساءلت حينها في داخلي:
هل ما نتعلمه من هؤلاء “النجوم” هو الدرس الحقيقي؟
أم أن الدروس الأهم مخبأة في قصص الفوضى، في المسودات الأولى، في الفشل الذي لا يُحكى؟
ما لا يُقال في قصص النجاح
نحن البشر، وبطبيعتنا، نميل لسماع قصص النجاح،
نحب أن نتتبع مساراتها، والاقتباس من جملها، وننسى أحيانًا أن خلف هذه البساطة الظاهرة، قد تختبئ طبقات من التعقيد، ودروس لم تُذكر أو تُقال.
لهذا، قد تبدو “قصة النجاح” جملة بسيطة… لكنها في الحقيقة فكرة خطيرة.
لأن “القصة” كما تُروى، تختزل مشوارًا طويلًا من المحاولات، وتتجاهل الطرق الملتوية، والترددات، والانكسارات التي لم تُوثّق.
لتحوّل كل ذلك إلى حكاية متماسكة تبدو كأنها كانت واضحة منذ البداية.
لكن الواقع؟
أكثر فوضى.
أقل مثالية.
وأحيانًا… لا يبدو كـ “نجاح” إلا بعد مرور وقت طويل…
من الفوضى يولد النظام
تُخبرنا “نظرية الفوضى” في الفيزياء أن الأنظمة المعقدة تبدأ في صورة غير منتظمة، عشوائية، وفوضوية، لكن شيئًا فشيئًا، تبدأ أنماط مكرّرة في التشكّل، ويولد من هذه الفوضى نظام متماسك.
حتى أن الكون نفسه -كما أثبتت نظريات علوم الفلك- بدأ بفوضى شديدة ثم تجمّعت طاقاته لتتشكل بإرادة خالقه عزّ وجلّ على صورة القوانين الأربعة الأساسية التي تحكم كل التفاعلات المادية: الجاذبية، الكهرومغناطيسية، القوى النووية الضعيفة، والقوية.
لكن هذه ليست قصة كونية فقط.
في الحياة أيضاً، غالبًا ما نبدأ من فوضى:
من محاولات غير متناسقة، خطوات متعثّرة، وقرارات مشوشة لا يبدو بينها رابط. ومع ذلك، إن واصلنا السير، تظهر الأنماط. ويتكون نظامنا الخاص. وتبدأ الفوضى في تنظيم نفسها.
وهنا يظهر المعنى في أبسط مبادئ التعلّم: “كلما زادت تجاربك، زادت كفاءتك.”
تمامًا كما يُظهره “منحنى التعلّم” في الصورة. فحتى الإنجاز يبدأ أحيانًا بلا ملامح
.
تتبع أنماطك الخفية
أدركت هذا الأمر بوضوح حين عدت إلى ملفات ورقة علمية نجحت في نشرها قبل عدّة سنوات في مجلّة علمية مرموقة.
عندما فتحت المجلد، فوجئت بكمية المسودات الفوضوية التي كتبتها قبل الوصول إلى النسخة النهائية. عشرات المحاولات. أفكار غير مكتملة. بدايات تُركت في المنتصف.
لكن، حين نظرت بتمعّن، بدأت أرى “أنماطًا” واضحة. بدأت أفهم كيف أن بعض الفشل كان بمثابة إشارات توجهني، لا تُعيقني.
كل محاولة فاشلة كانت تقول لي:
“هذا ليس الطريق… لكنك اقتربت”.
وهذا ما تعلّمناه أيضًا في بدايات أوفيس ستيشن.
في رأيي، الرسم البياني السابق مثالي بزيادة ولا يعكس الواقع. فهو يمثّل المنحنى وكأنه يسير بشكل طردي إلى الأعلى وكأن الطريق واضحة.
ولكن لو أردت أن أرسم منحنى التعلّم في أوفيس ستيشن سيكون هكذا:
هذه التعرجات ليست عيوبًا. إنها التعليم الحقيقي.
طريق النجاح لا يسير بخط مستقيم كما تخبرنا الرسوم البيانية الجميلة. بل هو طريق متعرج، مليء بالحفر، فيه تراجعات وانزلاقات. هذا ما أسميه “تعلّم”.
ليست كل النجوم عملاقة… وليس كل الناجحين لامعين
كما في علم الفلك، كذلك في الحياة: لطالما انشغلنا بـ”النجوم اللامعة”، لأنها وحدها التي تسطع في السماء… فتأسر النظر، وتخطف الانتباه.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأ العلماء يلتفتون إلى تلك النجوم التي لا تُرى — ما يُسمّى بالنجوم الخافتة أو “النجوم الفاشلة”.
المفاجأة؟
اكتشفوا أن خلف هذا الغياب ضوءٌ خافت، لا يعني فشلًا، بل يعبِّر عن نوع آخر من الحياة.
حياة غنية، عميقة، لا تُقاس بالبريق… بل بالتكوين.
على العكس من النجوم العملاقة، التي غالبًا ما تكون شديدة السطوع… وشديدة التدمير.
تأمل قليلًا في هذه المفارقة: “النجاح” كما نراه قد يكون خادعًا، والفشل -الذي نتجاهله- قد يكون هو البذرة التي تبدأ بها حياة جديدة.
لا تقف عند اللمعان
ليس الهدف من هذا أن نقلل من قيمة من وصلوا، من تألقوا، من أصبحوا رموزًا. بل أن نُعيد النظر في طريقة فهمنا للرحلة. أن نُعطي لأنفسنا وللآخرين المساحة للتخبّط، للفوضى، للفشل، وأن نحتضنها كجزء من الطريق.
أن لا نجلد أنفسنا فقط لأننا لم نلمع بعد.
أن نبحث عن الأنماط، لا عن الأبطال.
أن نؤمن أن التقدم الحقيقي يبدأ حين نغوص في مسوداتنا، لا حين ننتظر أن تُروى قصتنا.
النجاح ليس نجمًا يُرى… بل مجرة من نجوم فاشلة لم تُرَ.
والنجاح هو النتيجة، لكن الفشل هو الطريق.
الكاتب: عبدالله الزهراني
تحرير وإعداد: إنعام مصطفى