التقيت مؤخرًا بصديق قديم. بدا عليه الحماس، وقد ارتسمت على وجهه ملامح إثارة من نوع خاص — فقد حصل أخيرًا على الترقية التي طال انتظارها، وجاء يحمل معها فكرة مشروع يؤمن به بشدة.
جلس أمامي في المقهى
يتحدث بانفعال، يرسم خارطة التغيير التي يريدها في قسمه، ويشرح أثر المشروع على بيئة العمل، على الإنتاجية، على جودة الخدمة.
كنت أستمع له، وأراقب تلك اللمعة في عينيه — ذلك التوهج الذي لا تراه إلا في عيون من يظنون أنهم أخيرًا… وجدوا الطريق الصحيح.
الفكرة – كما شرحها – لم تكن معقدة. كانت بسيطة، منطقية، مباشرة، وتحمل في طياتها قيمة واضحة تجعلها تستحق الدعم دون تردد، لو كنت أنا من يتخذ القرار.
لكن بعد عدة أسابيع، تلقيت منه اتصالًا مختلفًا تمامًا. هذه المرة كان صوته مثقلاً بخيبة أمل واضحة. جلسنا في المقهى نفسه، في ليلة يلفها الغيم، والسماء متقلبة المزاج.
وبينما كانت قطرات المطر تنساب على الزجاج بجانبنا، بدأ يسرد لي ما حدث.
كان الطقس في تلك الليلة مناسبًا تمامًا لمزاجه المنكسر.
قالها بصوت لا يخلو من مرارة: “مديري قال لي إن المشروع لم يعد يخدم مصلحة القسم، فقررنا نوقفه.”
كان غاضبًا، مستاءً، ليس فقط لأنه بذل في هذا المشروع جهدًا خارقًا خارج ساعات الدوام، ولكن لأنه – على حد تعبيره – “رفضوا بدون سبب واضح …والقرار ما له أي تبرير منطقي!”
وبينما كان يتكلم، بدأت أشعر وكأن عدوى مشاعره انتقلت إليّ. كنت أراه أمامي، بشغفه، بوقته الضائع، بصراعاته الصامتة… وأحاول ان أفهم: لماذا فشل مشروع كهذا؟…
حين لا يكون المنطق كافيًا
من تجربتي، كثيرًا ما نقع في فخ الاعتقاد بأن المؤسسات تُدار بالأرقام والمنطق وحده. نتصور أن تقديم خطة محكمة مليئة بالإحصائيات والدراسات يكفي لتمرير أي مبادرة.
لكن الحقيقة أن المؤسسات، رغم كل هياكلها الصلبة، هي في النهاية كيانات بشرية. والسياسة – بأشكالها المختلفة – جزء لا يتجزأ من ديناميكياتها.
كم مرة رأيت مشروعًا ممتازًا يُجهَض لأن من يقف خلفه ليس في دائرة النفوذ؟ وكم من مبادرة متواضعة تم تبنيها فقط لأنها تخدم مصلحة طرف قوي داخل المنظمة؟
كل هذه الأفكار عادت إليّ بينما كان صديقي يروي التفاصيل. فهمت تدريجيًا أن مشروعه – رغم عقلانيته – كان يصب في مصلحة قسم منافس، في وقت كانت فيه المؤسسة تمر بإعادة هيكلة حساسة، يسعى أثناءها كل قسم لتعزيز حضوره وميزانيته.
بين كوتر والواقع
تذكرت حينها نموذج جون كوتر الخبير في القيادة والتغيير، الذي لطالما أعجبني بنائه المتسلسل والمنطقي للتغيير داخل المؤسسات:
- خلق شعور بالإلحاح.
- تشكيل تحالف قوي.
- تطوير رؤية واضحة.
- توصيل الرؤية بفعالية.
- تمكين الفريق ودعمه.
- تحقيق إنجازات قصيرة المدى.
- البناء على النجاحات.
- ترسيخ التغيير في ثقافة المؤسسة.
لكن النموذج، رغم جماله، يبدو أحيانًا وكأنه صُمم لعالم مثالي لا وجود فيه للتحالفات الخفية، ولا للحساسيات بين الأقسام، ولا لمن يشعر أن نجاحك يعني تهديدًا له.
في كتاب Power, Politics, and Organizational Change، ينقل Buchanan وBadham مقابلة مع أحد الاستشاريين الذين قادوا مشروعًا مشابهًا لأحد المؤسسات، وقد فشل المشروع رغم جودة فكرته.
والسبب؟ لم يحسبوا حساب “خرائط العلاقات” داخل المؤسسة؛ إذ كانت الرياح تجري بعكس اتجاههم ومواقع نفوذهم في الهيكل الداخلي.
من قد يتضرر من نجاحك؟
نحن نميل إلى الاعتقاد بأن كل فكرة جيدة سترحب بها المؤسسة. لكن الحقيقة مختلفة: كل تغيير – مهما بدا بريئًا – يُقلق أحدهم. يغيّر ميزان القوة. يُضعف نفوذًا. يسلط الضوء على فريق دون آخر. وقد يكون هذا وحده كافيًا لإيقافه.
صديقي – وأقولها بصدق – لم يكن ساذجًا. لكنه – مثل كثيرين – ركّز على المنطق والإنتاجية، وأهمل سؤالًا واحدًا بسيطًا لكنه مهم: على حساب من سيكون هذا المشروع؟
في حديثه، ذكر بعض الشخصيات المؤثرة في المؤسسة، وشيئًا فشيئًا بدأت الصورة تتضح: “الطقس السياسي” لم يكن مناسبًا لمشروعه.
عين المحاسب أم عين اللاعب؟
في نهاية حديثنا أدرك صديقي اللعبة كاملة. قال لي بهدوء هذه المرة:
“أعتقد أن خطئِي كان في أنني رأيت التغيير كمعادلة منطقية… بينما كان علي أن أراه كرقعة شطرنج.”
لم أنسَ هذه العبارة. بل صارت تتكرر في ذهني كلما واجهت مبادرة جديدة في بيئة العمل.
فالمنطق والارقام تبني الجسور، لكن السياسة وخارطة العلاقات تحدد عبر اي من هذه الجسور يُسمح لك بالعبور.
الكاتب: عبدالله الزهراني
النشرة من إعداد: إنعام مصطفى