الثقب في الجدار: كيف نعيد تعريف عملنا

كان صباح يوم خميس هادئ، ضغط العمل في أخفّ أوقاته، وأجواء المستشفى بدأت تبطئ من إيقاعها المعتاد. دخلت مكتبي، جلست للحظة دون أن أفتح الحاسوب، فقط حدّقت في الجدار أمامي. لم أطرح على نفسي السؤال المعتاد: “ما الذي يجب أن أفعله اليوم؟” بل خرج سؤال مختلف، أعمق، دون مقدّمات:

ماذا نعمل حقًا؟ ما القيمة الحقيقية التي نُقدِّمها لعملائنا؟

التفت إلى أحد الزملاء وسألته، فرد ضاحكًا: “نعالج المرضى، أكيد! أجل إيش؟”
ضحكته كانت خفيفة، لكنها كشفت عن افتراض ضخم نقوم عليه يوميًا دون أن نتوقف عنده…

لاحقا, صعقتني عبارة قرأتها للبروفيسور “ثيودور ليفيت” من جامعة هارفارد، يقول فيها:

“الناس لا يشترون المثقاب، بل يشترون الثقب في الجدار.”

العميل الذي يشتري مثقابًا لا يهتم بالمثقاب ذاته، بل بالنتيجة التي يريدها: الثقب.
الوسيلة لا تهمه كثيرًا، ما يهمه هو تحقيق القيمة والنتيجة التي يسعى لها.

 

سأسالك سؤالًا كمثال:
“حسام” موظف يعمل في Office Station. ما هو المجال الذي يعمل فيه حسام؟

قبل أن تُجيب، دعني أوضح لك الفكرة من خلال مثال مقتبس من كتاب معضلة المبتكر لـ كلايتون كريستنسن.
حين تحدّث عن أن شركات السيارات ليست في “مجال السيارات”، بل في “مجال المواصلات”. العميل لا يريد سيارة بحد ذاتها، بل وسيلة توصله من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) بأقل جهد وأقل كلفة.

هذا المثال يوضح أهمية توجيه الانتباه إلى العميل والقيمة التي يحتاجها فعلاً وليس إلى المنتج نفسه.

 

حسام إذًا، لا يعمل في مجال بيع المكاتب ومستلزماتها. بل يعمل لمساعدة العملاء في زيادة إنتاجيتهم في أعمالهم بطريقة مريحة، فعالة وصحية.

هذه الفكرة وسّعت عندي إطار النظر: ما الذي يشتريه عملاؤنا حقًا؟ ما القيمة التي يريدونها، والتي لا تُرى بالعين المجردة؟

هذه الأسئلة تقودنا إلى جانب مهم في علم النفس الإدراكي: الدماغ لا يتعامل مع المعلومات كحقائق مجردة، بل يتأثر بالإطار الذي تُقدَّم فيه.

فعندما يكون تركيزنا منصبًا على “المنتج” أو “الخدمة”، نغفل أحيانًا عمّا وراءها من “قيمة”.

لكن حين نعيد صياغة الإطار، وننظر للصورة من زاوية احتياج العميل ومكسبه الفعلي، نكتشف أن ما يهمّه ليس ما نبيعه… بل ما نُمكّنه من تحقيقه.

 

تذكرت مريضة شابة حضرت إليّ قبل أشهر. كنت أشرح لها عن الخيارات العلاجية، لكنها بدت مترددة ومشتّتة، وكأن شيئًا في القرار لا يُقنعها.
سألتها عن هواياتها، فقالت لي إنها تحب الرسم، وأنه الشيء الوحيد الذي يمنحها شعورًا بالمعنى والهدوء في حياتها.

وقتها فقط، فهمت لماذا تردّدت.
وذلك لأن العلاج الذي اقترحته قد يسبب تأثيرًا على الأعصاب الطرفية… ويُضعف من دقة حركة أصابعها.

عندما فهمتُ ذلك وتناقشنا في الخيارات، قدّمت لها خيارًا علاجيًا آخر – أقل فاعلية جزئيًا – لكنه لا يعرّض مهارة يدها للخطر. اختارته، وشكرتني وكأنني أعطيتها الحياة نفسها، لا دواءً فقط.

 

في ذلك اللقاء، أدركت أن المرضى لا يفكّرون بالمرض نفسه بقدر ما يفكّرون بالحياة التي يريدون العودة إليها. لا تهمهم المصطلحات الطبية، ولا الآلية الدوائية، بل تهمهم النتيجة التي يريدون تحقيقها:
أن يعيشوا يومهم، ويذهبوا لأعمالهم، ويشربوا قهوتهم، ويحتضنوا أطفالهم، دون ألم… دون إعاقة… دون خوف.

 

ما القيمة التي نمنحها… حقًا؟

في يوم الأحد، عدت إلى العمل وقد تغيّر شيء في نظرتي. لم أعد أرى المريض كمجموعة أعراض، ولا العلاج كجرعة محسوبة. أصبحت أسأل نفسي دومًا: ما القيمة الحقيقية التي يريدها هذا المريض؟

وحين بدأت أفكّر بهذا الشكل، بدأت أرى صورة أوسع.

صرت أقيّم العلاج ليس فقط بناءً على فعاليته، بل بناءً على تأثيره الكامل على حياة المريض — مهما بدا بسيطًا من وجهة نظر طبية.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى