بين الخطوة الصغيرة والمستقبل البعيد: درس من صديق قديم

في ظهيرة خريفية لطيفة، التقيت بصديق قديم لم أرَه منذ زمن. جلسنا في زاوية مقهى هادئ، نثرثر عن الحياة والعمل والأصدقاء الذين تفرّقوا في الطرق. كان اللقاء دافئًا، لكن شيئًا في حديثه شدّني دون أن أنتبه في البداية.

قال فجأة: “قدّمت استقالتي.”

نظرت إليه بدهشة، لأنني كنت أعرف أنه في منصب وظيفي مرموق، في جهة يحلم بها كثيرون. سألته: “ليش؟”، فأجاب بابتسامة تحمل شيئًا من التردد، وشيئًا من التصميم:

“المكان اللي أنا فيه كان يوصلني لحائط مسدود… والفرصة اللي أنا أبغاها تحتاج مني أبدأ من مكان مختلف، حتى لو بدا أصغر.”

تأملت كلماته. لم يكن حديثه عن استقالة تقليدية، بل عن قرار واعٍ بترك “المضمون” لأجل “الاحتمال”.

صديقي اختار الانتقال إلى وظيفة أصغر من حيث السلطة والمكانة، لكن تلك الوظيفة تحمل مشروعًا مستقبليًا ضخمًا – فرصة قد لا تأتي إلا مرة واحدة.

في البداية، لم أفهم. لماذا يخاطر؟ لماذا يترك مكانًا آمنًا ومحترمًا من أجل شيء غير مضمون؟ لكنه أكمل وكأنه يقرأ ما في ذهني:
“ما كان عندي وعد رسمي، بس أحيانًا الوضوح ما يكون مكتوب، يكون في التوقيت… وفي نظرتك للمدى البعيد.”

 

القرار الصعب: بين ما يبدو “منطقيًا” الآن، وما يُثمر لاحقًا

عدت إلى البيت وظلت كلماته تدور في رأسي. كم مرة رفضنا خطوة لأنها لا تبدو مناسبة الآن، فقط لأننا نقيس الأمور بمسطرة اللحظة؟

في حياتنا المهنية – وحتى الشخصية – كثيرًا ما نقع في فخ التقييم القريب. نريد نتائج فورية، نتمسك بالأمان، وننسى أن بعض الخطوات التي تبدو “تنازلًا” اليوم… هي البوابة الوحيدة للوصول إلى شيء أكبر غدًا.

علم النفس السلوكي يسمي هذا الانحياز للحاضر (Present Bias)، وهو ميل الإنسان لتفضيل المكافآت القريبة، حتى لو كانت الصغيرة منها، على حساب المكافآت المستقبلية الأكبر. هذا الانحياز يجعلنا نختار ما هو مريح الآن على حساب ما هو مهم لاحقًا.

لكن صديقي – وبشكل نادر – امتلك شجاعة التفكير بعيد المدى. هو لم يطارد المظهر، بل طارد النية، واتخذ قراره بناءً على ما يمكن أن يوصله إليه، لا ما يمنحه إياه في اللحظة.

 

كيف نتخذ قراراتنا؟

نحن لا نواجه دائمًا قرارات بحجم الاستقالة أو تغيير المسار المهني، لكننا بشكل يومي نختار بين راحة الآن وفرصة لاحقة:

  • بين مشاهدة حلقة جديدة أو إنهاء مشروع مؤجل.
  • بين الحديث التقليدي والمبادرة بشيء مختلف.
  • بين أن تبقى في مكانك… أو تخطو خطوة، حتى لو كانت صغيرة.

الخطير أن هذه الخيارات اليومية، حين تتراكم، تشكل مستقبلنا البعيد والقريب… حرفيًّا.

 

كيف تُتخذ مثل هذه القرارات؟

قرارات مثل التي اتخذها صديقي لا تُبنى على العاطفة فقط، ولا على الحدس وحده. هناك مجموعة من العوامل التي عادة ما يستند إليها الشخص الواعي عندما يقرر المجازفة من أجل هدف بعيد:

  1. وضوح الهدف الشخصي:
    من يعرف ما يريد حقًا، لن يرضى بأقل مما يستحق. هذا الوضوح الداخلي هو البوصلة التي تساعدك على تقييم كل خطوة: هل تقرّبك من هدفك، أم تبعدك عنه؟
  2. إدراك التوقيت:
    أحيانًا، الفرصة لا تكون كاملة، لكنها تأتي في وقت مثالي. التوقيت يلعب دورًا خفيًا لكنه حاسم، لأنه قد يحدد حجم العائد الذي يمكن أن تحصده لاحقًا.
  3. الثقة بالنفس والمهارات:
    الشخص الذي يؤمن بقدراته، لا يخاف من الخطوات المؤقتة المتواضعة. هو يعرف أنه حين تحين الفرصة، سيكون جاهزًا.
  4. تحليل المخاطر والنتائج المحتملة:
    ليس كل قرار فيه مخاطرة يعني أنه “متهور”. الذكي هو من يوازن بين الخسارة المحتملة والعائد الممكن، ثم يقرر إن كانت المخاطرة تستحق.
  5. الإشارات غير الرسمية:
    ليست كل الفرص تأتيك عبر عقود أو وعود مكتوبة. أحيانًا، تكون في نبرة حديث، أو في سياق داخلي داخل المؤسسة، أو في شخص يؤمن بك ويمنحك مساحة قادمة.

عندما تتقاطع هذه العوامل، يكون الشخص أمام قرار يبدو من الخارج غريبًا، لكنه من الداخل… محسوب جدًا.

الرسالة

ما تعلّمته من هذا اللقاء أن التفكير بعيد المدى ليس رفاهية ذهنية… بل مهارة تُكتسب، وتتطلّب شجاعة.

فالاختيارات الذكية لا تكون دائمًا لامعة، ولا تحمل ضمانًا، لكنها تخبّئ بداخلها قوة لا تظهر إلا مع مرور الوقت.

صديقي لم يركض خلف الوعد، بل حضّر نفسه ليكون في المكان المناسب، عندما يحين الوقت.

 

الكاتب: عبدالله الزهراني

النشرة من إعداد: إنعام مصطفى